في جحيم «النقزة» و«النقرة»

TT

اضطر موقع إنترنتي اقتصادي مالي جاد ورصين أن يعلن عن نفسه على «فيس بوك» بالطريقة التالية: «كيف تكسب امرأة الملايين: إما أن تكون عارضة برازيلية أو مغنية لبنانية أو تتعلم الاستثمار على موقع (كذا)». وبالتالي تكون الدعاية التي تشرح أن أهم عارضات الأزياء الشهيرات اليوم هن من البرازيليات وأغنى المطربات العربيات هن هيفاء وأليسا ونانسي عجرم، قد أوصلتنا إلى أن الخيار الثالث الوحيد المتبقي أمام المرأة الراغبة في الربح هو اللجوء إلى الموقع الاستثماري المقصود وضربت عصفورين بحجر واحد. أما الحجر المستخدم هنا فهو «الدعاية» وأما العصفوران فهما إحداث «النقزة» المطلوبة عند المتصفح، ومن ثم إجباره على «النقر» أي الضغط على الزر الإلكتروني لقراءة المزيد. و«النقزة» كلمة عامية أصولها فصيحة تعني المفاجأة حد الذعر ومن ثم الوثوب. والإعلانات ربما لا ترغب في أن توصلنا إلى الذعر، لكنها حتما تهدف لأن تصيبنا بالمفاجأة حد القفز من أماكننا (معنويا طبعا). ولذلك فالدعاية الناجحة هي التي تصيبنا بدهشة تبقى عالقة في الذهن، ومؤثرة.

وإذا كان هذا هو منطق الإعلانات فقط فلا اعتراض، ولا رعب يتملكنا، أما أن يتحول منطق العصر إلى تأرجح لا يهدأ بين «النقزة» و«النقرة» فهذا هو المخيف. ولا يخفى على أحد أن عدد النقرات التي يسجلها أي موقع أو أي صفحة على الإنترنت باتت تحتسب بشكل دقيق، لمعرفة الأماكن الأنسب على الشبكة لنشر الدعايات ورفع أسعارها أو خفضها. وصار البعض لا هم له سوى زيادة عدد النقرات على موقعه، وهو ما استدعى ابتكار برامج وظيفتها الأساسية عمل نقرات متتابعة على الموقع المستهدف، لإقناع المعلنين بأهميته الجماهيرية، ولو من باب الغش الإلكتروني. فعدد النقرات بات، للأسف، يحدد المصائر ويعبث بالضمائر.

ولا يضغط المتصفح على الزر ويسجل «النقرة» - وهي كلمة فصيحة الأصل معناها البحث والتفتيش - إلا بعد أن تتحقق له «النقزة»، ويجد نفسه مشدودا، بقوة لا تقاوم، لمعرفة المعلومات حتى آخرها. وتستفيد الصحف الخبيثة من هذه المشاعر المتوثبة، التي يصبح معها القارئ في اضعف حالاته لتقول له بمنتهى البراءة: «باقي المقال على النسخة الورقية». فيما تستفيد مواقع أخرى لتستغله بأساليب لم يعد لها من عد ولا حصر، وإن خفيت على المتصفح نفسه.

منطق «النقزة» و«النقرة» الذي بات يتحكم في سلوك المبحرين على الشبكة العنكبوتية، والإمساك برقاب رغباتهم، ينطبق أيضا على يومياتهم. ويمكننا الاستفادة من عبارة: «خذوا الحكمة من أفواه المجانين» باستبدال لفظة الحلاقين بالكلمة الأخيرة، بعد أن أصبح هؤلاء قادرين على رصد المضمر والخفي من سلوك الزبائن، نيابة عن المجانين حين كانوا ضمير الشعب ولسانه الذي لا يكذب. ويقول لي حلاق متمرس، إن ما يعني كثيرات من زبوناته ليس جمال التسريحة، وإنما مدى فعاليتها في لفت النظر وإحداث الصدمة. وشرح لي بمنتهى الجدية: «إن الكلاسيكية اليوم باتت تعني الهامشية، وما يهم أي إنسان، هو أن لا يمر عابرا حين يدخل مكانا عاما، أو يجلس على طاولة الأصدقاء». ويسخر وهو يردد: «المهم أن يتمكن الشخص من تنقيزك، ومش مهم بعدين شو بيحكي وكيف بيفكر».

قد يقول البعض: «هذا أمر يخص الحريم»، وعندها يكون قد جانب الصواب، فنظرة على الفنون تريك ظواهر مرعبة. كتبت زميلتنا أنيسة مخالدي من باريس أن معارض تشكيلية عديدة باتت لا تتورع عن استخدام أعضاء بشرية، وربما جثث كاملة لمخلوقات مثلنا كانت حية تنبض ذات يوم، لاجتذاب ملايين المتفرجين الذين يدفعون ثمن تذاكر لتسجيل سابقة رؤية معرض غريب لا يشبه غيره. والفنانون الذين يريدوننا أن ننقز كي يشتهروا وتلمع أسماؤهم، منهم من يستخدم البول والبراز والشعر، وكل ما يمكن أن لا يخطر لك على بال كي يجعلوك تدفع ثمن التذكرة، ويجبروا وسائل الإعلام على التحدث عنهم. ويمكنك أن تتأمل قليلا في أفلام الشباب العربية لتكتشف موجة تسليط الكاميرا على كل ما هو قبيح وبشع، من المراحيض إلى القمامة، والقذى في العيون إلى الأرجل المتسخة والمجارير، ظنا منهم أنهم بهذه الطريقة الفاشلة يجبروننا على النقز، وتخليد أسمائهم في ذاكرتنا. لكن هذا الاجتهاد المشين يعطي نتائج عكسية عند من يجهل أصوله، إذ بات المتفرجون يخرجون دون إكمال الفيلم تقززا مما يشاهدون.

وإمعانا في تسجيل النقزات، نشرت مطبوعة «لوكورييه إنترناسيول» الشهيرة مؤخرا مقالا عن موقع على الإنترنت، يبيع جثثا بشرية وأعضاء أو أجزاء منها لمن يرغب. وهذه تشتريها بشكل أساسي لو كان لك صديق طبيب تريد أن تقدم له هدية ثمينة لا يستطيع التفريط بها. ونعتذر عن ذكر عنوان الموقع، حرصا على عدم الترويج له، لكن كي تأخذ فكرة عملية عن الموضوع نخبرك بأن سعر جزء من جمجمة بشرية هو 1500 يورو، والجثث معروضة بشكل فني، ويفخر صاحبها الموجود في ألمانيا بأنه سبق له أن عرضها في أماكن عديدة من العالم. فهو متخصص في تنظيم معارض الجثث، وتقديمها للجمهور بأساليب مبتكرة. خبر كهذا يحدث نقزات ترددية في أكثر من موضع، ونقرات لا نعرف عددها. فالكل مستفيد، المطبوعة التي نشرت الخبر، وتاجر الجثث الذي سيربح من الموقع والبيع معا، وسلسلة أخرى من المتعاملين مع الخبر وجثثه لا نعرف مداها. أما الخاسر الأكبر فهي الإنسانية التي باعت نفسها في سوق الانفعالات الرخيصة والصفقات السريعة.

ثمة غرائبيات ممتعة تحدث نقزات جميلة، وتتسبب في نقرات أوتوماتيكية على العصب البشري تغنيه وتغذيه بفيتامينات المشاعر النبيلة. وهناك غرائبيات بشعة وغبية تتسبب في نقزات من المفترض أن تكون مرعبة بالنسبة للحس السوي، ومع ذلك ثمة من يبجلها ويرفع من شأنها. أما وأن الصالح يختلط بالطالح والغث بالثمين، فالأجدى بنا، والحالة هذه، «التنقير» عما ينفع الناس - والتنقير هنا هو البحث والتفتيش عن الأغلاط والمعايب - بدل «النقار والنقير» في مواضيع تضر ولا تفيد.