25 عاما من الإبهار

TT

مجموعة مختلفة من الأحداث والأخبار كلها تستحق الوقوف والتأمل، احتار قلمي فيها من أين يبدأ، وخصوصا لاختلاطها بين العام والخاص، ولكن هذه المسألة لا تقلل من أهمية الأحداث نفسها حتما، أتناول واحدة من أهمها لي شخصيا.

من معايير قياس تقدم الأمم والبلاد، عطاء مواطنيها لمجتمعاتهم بأشكال العطاء المختلفة والمتنوعة، فمنهم من يختار الانغماس في الشأن العام ولفترات متقطعة، ومنهم من يميل لصالح البناء المؤسسي طويل الأجل.

وهذه الأيام يستعد السعوديون عامة، وسكان جدة بشكل خاص، للاحتفال بمناسبة مرور ربع قرن، 25 عاما، على ولادة صرح إنساني عملاق، هو «مركز العون» المعني برعاية المعاقين عقليا بمختلف حالات الإعاقة، وقد أُطلق المركز برعاية كريمة من قبل أسرة الجفالي المعروفة في عوالم التجارة والاقتصاد بالسعودية، وتحديدا من قبل السيدة الكريمة سعاد الحسيني الجفالي، أرملة الراحل الكبير الشيخ أحمد الجفالي، حيث أسست مركزا يعنى برعاية ومتابعة وتعليم أصحاب الإعاقات الذهنية المختلفة الذين لم يكن بإمكان المراكز التعليمية ولا الصحية قبولهم ورعايتهم أو تدريسهم وتطوير قدراتهم، ومع مرور الوقت والأيام انضمت إليها ابنتها «مها» ليزيد المركز من عناصره الإدارية ويستثمر في التجهيزات الحديثة والكوادر الإنسانية لتواكب احتياجات أولياء أمور الطلبة والصغار من مرتادي مركز العون.

ولكن الأبطال الحقيقيين لقصة نجاح مركز العون المبهرة هم الأطفال أنفسهم الذين كبروا وتحولوا في حالات كثيرة جدا إلى قصص نجاح وأعضاء منتجين ومساهمين بفعالية في مجتمعهم، وليس من دليل أبلغ على صدق هذه المقولة ودقتها إلا دموع الآباء والأمهات وهم يروون تجاربهم الشخصية جدا مع أبنائهم وبناتهم مع مركز العون، وكيف وجدوا الأمل بعد أن سدت الأبواب والسبل في وجوههم للتعامل مع حالات فلذات أكبادهم الصعبة والمعقدة.

مركز العون تحول من قصة محلية إلى مضرب مثل يسعى لتقليد تجاربه الكثيرون حول العالم العربي. فمشاركات المركز في ندوات وورش عمل ومؤتمرات في أكثر من دولة عربية تحكي التجربة وتقدم الدليل والبرهان عبر وفود من الطلبة والمعلمات دائما ما تترك الأثر الجميل في النفس والابتسامة على الوجوه ودموع الفرحة في العيون. لم تكن قصة النجاح سهلة ولا بسيطة، ولم يكن عنصر التمويل هو العصا السحرية ولا مفتاح الإنجاز الوحيد، ولكن كان هناك الكثير من التحديات والعقبات والمصاعب التي تمت مواجهتها بالفكر المسؤول والحكمة والعقلانية، فاجتماعيا لم يكن «مقبولا ولا لائقا» أن يعرف الأهل أولادهم بأن لديهم طفلا «معاقا ذهنيا»، وطبعا مع مرور الوقت أصبح المجتمع أكثر نضوجا وقبولا للتعامل مع أصحاب «الاحتياجات الخاصة» ودمجهم بالتدريج في النواحي المختلفة من الحياة اليومية، بعد أن كان لسنوات طويلة جدا مصير هذا الطفل هو الغرفة المظلمة البعيدة داخل جنبات المنزل، والإحساس بأن هذا الطفل جاء بهذا «الوضع» كعقاب وذنب عظيم للأهل، وهذا طبعا تفكير قاصر وجاهل وأحمق بعيد تماما عن المنطق والعقل والرحمة والمحبة.

اليوم من السهل جدا أن ترى الآباء والأمهات وهم يتحدثون بكل فخر واعتزاز عن أولادهم أصحاب الاحتياجات الخاصة ومدى تطورهم التعليمي والسلوكي والإنتاجي وتحسن قدرات التخاطب والتواصل والتفوق والانسجام والاندماج، وهي جميعا خاضعة لمعايير دقيقة عبر وسائل وأدوات قياس معتمدة ومعروفة.

مركز العون وقصة نجاحه عبر خمسة وعشرين عاما من الجد والعطاء والتفاني والمثابرة ومواجهة الصعاب والتحديات الإدارية والشخصية والإنسانية هي شموع أمل وشهادات نجاح للقدرات والعطايا الإنسانية إذا ما قدمت بحق وإخلاص وجد وأمانة.

في النهاية هذا المركز الذي بدأ بفكرة مستحيلة، بعيدة وصعبة المنال والتحقيق تحول إلى «منارة» للنجاح ومضرب للمثل، إنها ربع قرن من الدموع والعرق والسهر والحلم والأمل يستحق أصحابها الشكر والاحترام والتقدير والثناء، لأنه ليس من أعطى كمن لم يعطِ، وليس كل عطاء متشابها. احتفال مركز العون بمرور هذه السنوات على نشأته يؤكد أن الحلم ممكن تحقيقه، وأن المستحيل ممكن قهره.

[email protected]