لا مجاعة في الأندلس

TT

سافر تيوفيل غوتييه، كاتب فرنسا في القرن التاسع عشر، في بلاد الإسبان طولا وعرضا، صارفا معظم الرحلة في ديار الأندلس وقصورها وآثارها. كانت وسيلة الرومانسي الشهير في التنقل، عربات تجرها الخيول، صعودا في الجبال ونهبا في القفار. وإذ يدون مفكرة الرحلة ومشاهد أشجار التين وبساتين الزيتون، يلاحقه منظر الفقر الشديد في كل مكان. وذات مرة أطل برأسه من نافذة العربة المسرعة فسقطت قبعته، وكان في المقربة صبي في الثانية عشرة، التقط القبعة وعدا يلحق بصاحبها حتى أدركه، فرمى إليه المسافر «بضعة قروش، أفرحته، لأنه أصبح أغنى صبي في تلك الأرياف».

يقوم ببعض الرحلة نفسها إلى إسبانيا، أوائل القرن العشرين، كاتب النمسا، ستيفان زفايغ، هذه المرة بالسيارة أو القطار. وإذ هو يتمتع بآثار أشبيلية لا يمكنه إلا أن يلاحظ «لا مكان في العالم فيه كل هذه البطون الجائعة مثل الأندلس، ومع ذلك فإن أشبيلية تبرق فرحا بألوانها الجميلة». وما يلحظه مسافر القرن التاسع عشر من جمالات الطبيعة وتنوعها، يلحظه مسافر أوائل القرن الماضي. ولا يغفل كلاهما ملاحظة تعصب أهل قشتالة (الكاثوليك) وفظاظتهم، أو أن إسبانيا هي في نهاية المطاف مجموعة شعوب وحضارات (تتحدث 5 لغات مختلفة اليوم).

عندما سافرت إلى إسبانيا منتصف السبعينات، كانت في المرحلة الأخيرة من عهد الجنرال فرانكو. لكنها كانت قد تغيرت إلى حد بعيد عن الصور التي ترسمها لها هوليوود في الأفلام: بوسطات محملة بفلاحين فقراء ومعهم دجاجاتهم، وطرقات ضيقة، مرصوفة بتلك الحجارة التي جعلت تيوفيل غوتييه يعجب من أن «الإسبان هم الحفاة الوحيدون القادرون على العدو فوق الحصى».

أذهلتني برشلونة هذه المرة، مع أنني آت إليها من باريس، لا من مدراس. وعندما ذكرت في زاوية سابقة أن برشلونة من قلائل المدن التي لا تحمل رنة عربية، صحح لي صديق عزيز في نيويورك، بأنها سميت على هملقار برقة، ابن مواطننا الكريم هانيبعل، الذي خرج من قرطاج يطلب روما وقياصرتها وشيوخها، لا أقل ولا دون ذلك. وقد كان صبورا جلودا صبر الأفيال التي دفعها في ثلوج الجبال، مرغمة غير مختارة. وفي النهاية اكتشف أنه خسر معركة روما بسبب الحاجة إلى 50 فيلا آخر.

ماذا تستخلص من كل ذلك؟ أن أوروبا كانت بلادا مليئة بالأفيال، وأن من طلب روما عليه أن لا يخطئ في عدد الأفيال التي يحتاجها.