لا ضرورة لما ليس بقاعدة

TT

في الأيام الأولى للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في الحكم، كان يتناول طعام العشاء مع جورج بوش في واشنطن، وظهر اليوم التالي يتناول الغداء مع أنجيلا ميركل في برلين، ثم يعود إلى واشنطن في اليوم نفسه لسبب معلن آخر. وفي أيامه الأولى تعمد حاكم عربي أن ينزل إلى أسواق عاصمته متنكرا، على طريقة الخليفة هارون الرشيد، لكي يتفقد مدى التقيد بضوابط الأسعار.

الأول كان يريد أن ينتزع إعجاب العالم بحيويته، خصوصا أن كل رحلة يلحقها طلاق أو شهر عسل. والحاكم العربي كان يريد التأكيد أنه لن يتهاون في تطبيق القانون. راقبت ذلك الأداء يومها وأنا أشعر بأنه لا ضرورة إطلاقا لسلوك لا يمكن أن يستمر، فالأرض صغيرة، ودولها قليلة العدد، وبعد قليل لن يعود مقبولا أن يذهب ساركوزي إلى واشنطن مرتين في يومين، ولن يعود مألوفا أن يتنكر حاكم دولة ذات سمعة وفعالية، في مهمة تستطيع القيام بها لجنة رقابة اقتصادية.

لكن هذه طبائع البشر، مهما ارتفع مقامهم.. ففي أشهره الأولى انتقل باراك أوباما من مكان إلى مكان، يلقي الخطب المكتوبة بواسطة المقرئ الزجاجي، الذي يجعل الخطيب يبدو مرتجلا. وبدأت الصحف تعلق على هذه الكثرة التي لا ضرورة لها، فعاد عنها. لكن الذي حدث أن عادة المقرئ الزجاجي (التليبرومتر) انتقلت إلى بعض العالم العربي، حيث يطيب مظهر الارتجال في الخطابة، مع أن الخطب بمضمونها لا بصورتها. وأهم الخطب المدونة في التاريخ قرأها أصحابها كما يقرأ التلميذ الصغير قصيدة محركة.

أريد القول إنه ليس من الضروري أن يبدأ المسؤول شيئا يستحيل الاستمرار فيه. فرحلات ساركوزي عبر الأطلسي تحولت من رحلتين في 48 ساعة إلى رحلة في العام. والسفر لم يعد مدعاة تباه أو تفاضل في عصر يسافر فيه نصف مليون إنسان تقريبا على مدى الساعة. وكان أساتذة الصحافة في الماضي يطلعوننا على جدول رحلاتهم، ليس على سبيل عرض تفاخري بجدول المطارات وحركة الرحلات، وإنما لكي يحملوا لنا من كل مدينة حكاية، ومن كل قديم جديدا، ومن كل مألوف ملاحظة مرت أمامنا ألف مرة ولم نرها، إلى أن حضروا بنباهتهم وجديتهم وكفاحهم العظيم في مهنة أتعبتهم وهزموها لكثرة ما جدوا فيها وما كدوا.

كانت الصحافة، والإبداع فيها، والتميز، والتفرد بأسلوب أو كلمة، هي غاية حياتهم. كتبوا من أجل الكلمة، لا من أجل الاستعراض. ولذلك بقوا، ويبقون، ويذهب جدول الرحلات إلى مكاتب السفر.