ألوووووها

TT

سافرت كثيرا، وجربت كل تلك الشروط (المتناقضة)، ما عدا أن أكون قد سافرت (لاجئا هاربا) - ولا أستبعد أن أحقق ذلك الشرط الناقص في القريب العاجل، فقد قررت أن أتمرد على (نفسي) لأنني بالفعل بدأت أضيق ذرعا ولا أطيق العيش معها.

والذي أجبرني على كتابة تلك المقدمة هو اكتشافي أن الناس يحبون التحدث للآخرين عن رحلاتهم ومشاهداتهم، غير أنهم بالمقابل لا يحبون الاستماع لأحاديث الآخرين عن رحلاتهم، وهم إن جاملوا وأنصتوا قليلا فسرعان ما يغيرون دفة الحديث لصالحهم.

مثل أحدهم عندما قابلني يوما بعد أن عدت من سفري، وبعد سلام قصير منه بادرني قائلا: سمعت أنك عدت من رحلة للبلد (الفلاني). فهززت له رأسي، فما كان منه إلا أن قال لي: «وأنا كذلك عدت قبل أسبوع من رحلة بين جزر اليونان»، وأخذ يعدد لي مزاياها، وأجواءها، وشواطئها، ومآكلها، ومشاربها، وأزياء نسائها، وكيف أنه تعلم في إحدى الجزر ركوب الحمير والتنقل بين القرى وصعود الجبال على ظهورها، لأنه في تلك الجزيرة محظور دخول السيارات. وبعد أن صدع رأسي بكثرة (رغيه)، وقفت مودعا وأنا أقول له: «مبروك عليك أنك تعلمت ركوب الحمير، غير أنني لا أركب إلا الأفراس الأصيلة».

وتأكد لي أن الإنسان آخر شيء يرغب فيه هو سماعه لتفصيلات رحلة إنسان آخر، إلا إذا كان في تلك التفصيلات شيء من المغامرات الفضائحية، ساعتها ينقلب بقدرة قادر إلى حكيم منصت ومتلهف إلى سماع أدق تفاصيل التفاصيل.

لهذا بدأت أطفش إذا سألني أحدهم عن أحداث أي رحلة من رحلاتي، غير أنني أجبر أحيانا على الحديث، حيث ان هناك أشخاصا لا أستطيع أن أرد لهم طلبا، لكنني في الغالب أبوء بـ(الفشيلة)، لأنني قد أتحدث وأنزلق بشيء من المبالغة أو حتى الكذب لأضفي على الحديث بعضا من التشويق، فتكون الطامة أن ذلك السائل يعرف جيدا ذلك البلد الذي أتيت منه فيصحح لي معلوماتي، أو يسألني وكأنه يختبرني وهو في الواقع يريد أن يستعرض أمامي ويكشفني عندما يسألني: هل ذهبت في ذلك البلد إلى المتحف، أو القلعة، أو المطعم، أو الملهى الفلاني؟!.. وفي الغالب كذلك أكون لم أذهب لأن البلد كبير ووقتي قصير، فيظهر أمام الجميع وكأنه هو الفاهم وأنا الجاهل - وما أكثر ما كنت جاهلا.

ولا أنسى يوما عندما جلست على طاولة للغداء مع اثنين ونحن في رحلة بحرية على سفينة (كروز)، وصمّخ أذني أحدهما بحديثه عن جزيرة (هاواي)، وأصبح كلما قابلني يصيح بي قائلا (ألوها) - وهي مرحبا بلغة أهل تلك الجزيرة - وفي المساء يناديني بـ(ألوها)، بل إنه كلما دخل الحمام وخرج منه أخذ يترقوص ثم يصيح بأعلى صوته قائلا (ألوها)، إلى درجة أن كلمة (ألوها) هذه أصبحت أسمج كلمة عندي.

اعذروني إذا كنت أتحدث لكم أحيانا عن بعض رحلاتي، لأن هذا هو (أكل عيشي)، لكن كل من عرفني شخصيا يعلم تماما أنني أبعد الناس عن التحدث في هذه الأمور.

وما أكثر الأشياء غير القابلة للنشر، والتي لم ولن أتحدث عنها - وهذا من حسن حظي.

[email protected]