جنون التضحية بـ«الوطني الحقيقي».. في سبيل أوهام خارجية

TT

المقياس العقلاني والواقعي للسياسة الخارجية - أي سياسة خارجية - هو «المصلحة الوطنية» أو القومية، أي جلب أعلى معدل من المكاسب التي تصب في الصالح الوطني، ودفع كل سلبية تجلب ضررا على الوطن: تجارته واقتصاده وأمنه وسمعته الخ.

والدليل على صحة هذا المقياس ومتانته أنه ما من أمة أو دولة تجافت عنه أو أهملته إلا باءت بالخسران.

وأبرز مثال أو حالة معاصرة في هذا المجال هي الاتحاد السوفياتي. فهذه الدولة الضخمة جدا سقطت بصورة أسرع مما توقعه خصومها.. ولئن استفاض الحديث عن أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي، فإن من أقوى هذه الأسباب - بلا ريب - : أن الحزب الشيوعي السوفياتي - الذي كان يسيطر على كل شيء - ضحى بـ«المصلحة الوطنية الحقيقية» للاتحاد وشعوبه في سبيل «وهم الانتصار العالمي للأيديولوجية الشيوعية».. وما هي هذه الأيديولوجية التي سخر كل شيء من أجلها؟.. هي منظومة أفكار ومفاهيم مبنية على مجرد ظنون في تفسير التاريخ والكون وعلاقات الإنتاج ومصائر البشرية (بمعنى أن تعود البشرية إلى الشيوعية الأولى ومن ثم تنتهي مشكلات البشرية وصراعاتها وحروبها).

فعلى أساس هذا الوهم أُديرت السياسة الخارجية للاتحاد السوفياتي، وكان من نتائجها على سبيل المثال:

1) وجهت أضخم الميزانيات للتسلح الهائل - التقليدي والنووي - والهدف هو إنزال هزيمة ساحقة ماحقة بالرأسمالية العالمية، على حين عطلت التنمية المتعلقة بخدمات المواطن السوفياتي ومصالحه ورفاهه.. وفي كتاب غورباتشوف «إعادة البناء» تلميحات مريرة إلى هذه المفارقات.. ولا بأس في التسلح إذا كان حماية للمصالح الوطنية الواقعية. أما إذا كان التسلح الباهظ مرتبطا أو مسخرا لخدمة «أوهام أيديولوجية». فهذه هي الغباوة التامة، والخيبة الكاملة.

2) في سبيل خدمة «الشيوعية الدولية»: أنشأ الاتحاد السوفياتي شبكة موسعة من الأحزاب الشيوعية حول العالم. وقد ثبت أن هذه الأحزاب كانت عبئا ماليا متزايدا على ميزانيات السوفيات المتتابعة، وعلى حين تدنت مخصصات المواطن السوفياتي: ارتفعت مخصصات الأحزاب الشيوعية الممولة سوفياتيا.

وكانت هذه التجربة المرة كافية - وحدها - لتجديد الوعي والإحساس بالمقياس العتيد المفيد للسياسة الخارجية: مقياس تقديم المصلحة الوطنية الحقيقية، في سياقاتها جميعا: المنضبطة بالمقياس أيضا.

بيد أن الدرس لم يستوعب، بل تكرر!!.. ومن الغريب العجيب أن الذي يكرره هو الخصم اللدود للاتحاد السوفياتي والذي انتشى بسقوطه نشوة عميقة مديدة. ونقصد به الولايات المتحدة.. إنها تكاد تكرر ذات التجربة الخائبة للاتحاد السوفياتي: تجربة التضحية بما هو وطني «حقيقي» في سبيل أوهام ومغامرات خارجية مثل «نشر الديمقراطية» أو «نقل النموذج الأميركي» أو «الإسهام الفاعل في تهيئة المسرح لمجيء المسيح من جديد» - وفق نظرية غلاة المحافظين الجدد -.

فاعتمادا على هذه الهرطقات، دخلت أميركا في مغامرات، وشنت حروبا (ولا سيما في أفغانستان والعراق).

وكان من نتائج هذه المغامرات المحفوزة بأوهام أيديولوجية حينا، وبالديمقراطية الطوباوية حينا آخر، وبذهان فرض النموذج الأميركي حينا ثالثا.

كان من نتائج ذلك:

أولا: ارتفاع معدل المديونية الأميركية إلى أكثر من 11 تريليون دولار.

ثانيا: أن حربي أفغانستان والعراق - وحدهما - كلفتا الخزانة الأميركية نحو سبعة تريليونات دولار.

ثالثا: أزمة مالية اقتصادية عميقة وحادة ضربت الاقتصاد الأميركي ضربات موجعة أدت إلى تراجعها على المسرح الدولي أمام الصين مثلا.. وهذه بداية الأزمة كما يقول العديد من خبراء الاقتصاد الأميركيين.

رابعا: منذ قليل نشرت الحكومة الأميركية تقريرا بالغ الخطورة عن «البطالة» وآثارها المدمرة في المجتمع الأميركي (وهذا التقرير هو مناسبة كتابة هذا المقال).. قال التقرير: «إن أكثر من 45 مليون أميركي أو ما نسبته 20 % من الأميركيين عانوا صورا مختلفة من الأمراض العقلية خلال العام الماضي، وإن 11 مليونا منهم كانوا يعانون أمراضا عقلية خطرة. والمتهم الأول المتسبب في ذلك كله هو البطالة».

البطالة - إذن - سحقت نفسيات وذهنيات 20 % من الأميركيين.

ما سبب البطالة؟

سببها: إهمال الشأن الداخلي - شأن معايش المواطن الأميركي - حيث إن التركيز انصب على المغامرات الخارجية، استغراقا زمنيا في صناعة القرار، وتوجيها للأموال إلى الشأن الخارجي: الحروب وما في حكمها.. والحق أن نفرا من النخبة الأميركية قد أبدى انزعاجه من مغامرات المحافظين الجدد المتمثلة في التضحية بمصالح أميركا في سبيل أهواء حفنة لا تكترث بمصلحة أميركا.. ففي عام 2003 قال الدبلوماسي الأميركي الشهير ريتشارد هولبروك: «بعض أعضاء الإدارة الحالية يتصرفون بقصر نظر. فهل من العقل والضمير والأمن الدولي: أن يصبح العالم كله ضحية لحفنة من الناس لا يكترثون باستقرار العالم، ولا تهمهم مصلحة أميركا نفسها».

خلاصة تجربة المغامرات والتهورات الأميركية - المحفوزة بهذا الدافع أو ذاك - هي: أن الأوضاع الداخلية أو المحلية قد تدهورت - اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا في سبيل ماذا؟.. المكسب الوحيد هو: خدمة أوهام خارجية وهذه سياسة تمشي عكس المقياس الصحيح في السياسة الخارجية، وكأن هذه السياسة العمياء تقول: «يجب التضحية بالمصلحة الوطنية الحقيقية في سبيل خدمة الأوهام الخارجية»!!.

ما العبرة السياسية والاستراتيجية في ذلك كله؟.. هما عبرتان عميقتان:

1) العبرة الأولى: أن تعتبر كل دولة وطنية بتجربتي الاتحاد السوفياتي وأميركا فتحذر - تمام الحذر - من مغامرة التضحية بالمصلحة الوطنية في سبيل أوهام خارجية، وهي لا تستطيع الحذر والتنبه إلا باعتماد مقياس «المصلحة الوطنية الواقعية هي - أولا وثانيا وعاشرا - قاعدة السياسة الخارجية».. هل في هذا أنانية؟.. ليكن!!.. فهذه أنانية محمودة إن صح التعبير.

2) العبرة الثانية هي أن الذين صفقوا لمغامرات أميركا من غير الأميركيين لم يكونوا مخلصين لها وإن ادعوا صداقتها. فإن الصديق الأمين لا يكون سببا في أذى جسيم لصديقه.. والعبرة - كذلك - ها هنا: أن هؤلاء المصفقين لأخطاء أميركا القاتلة لا يختلفون في شيء عن «دراويش» الاتحاد السوفياتي الذين كانوا يمتدحون سياساته بإطلاق إذ كانوا لا يملكون شجاعة نقده ونصحه حتى تراكمت أخطاؤه فسقط.