مناورة باكستان تقوض مصداقيتها

TT

خبر بدا صغيرا في الصحف العربية - وأغلبها تجاهله - وحتى في بريطانيا لم يحظ إلا باهتمام الـ«ديلي تلغراف» بين صحف «فليت ستريت»، والتي نشرته في 360 كلمة في صفحة داخلية يوم الثلاثاء.

جوهر الخبر أن باكستان جمدت عملياتها العسكرية الهجومية ضد طالبان وعصابات «القاعدة» على مناطق الحدود مع أفغانستان، احتجاجا على دعم أميركا لمطالبة الهند بمقعد دائم في الأمم المتحدة، مما اعتبرته باكستان تحيزا ضدها.

والعلاقة بين واشنطن وإسلام آباد لم تعد بالدفء نفسه الذي ميزها أثناء إدارة الرئيس الباكستاني السابق الجنرال برويز مشرف، الذي ترك الحكم طواعية كي تجري الأحزاب المدنية الانتخابات بينها وتعود مياه الديمقراطية إلى مجاريها (وهو أمر نادر الحدوث في حكومات الانقلابات العسكرية).

في اليوم نفسه، الذي اتخذت فيه إسلام آباد القرار، رفضت طلبا من الأميركيين بفتح جبهة جديدة للطائرات التي تطير بلا طيار لتعقب زعماء الإرهاب الذين يتحركون بحرية في بقعتين على الحدود الشمالية لم تكن هذه الطائرات المسلحة التي توجه باللاسلكي من مراكز الـ«سي آي إيه»، قد حلقت فوقهما سابقا.

رفض إسلام آباد جاء مغلفا بحجج الافتقار إلى ثلاث فرق عسكرية إضافية يمكن أن تؤمن القيام بهذا العمل؛ واعتقاد المخابرات الباكستانية أن غارات الطائرات بلا طيار تؤدي بالأهالي إلى «الارتماء في أحضان طالبان» حسب قول مصدر دبلوماسي باكستاني. الحجة الأخيرة سمعناها سابقا من حكومة اليمن، رغم عجز أصحاب هذه النظرية عن تقديم الدليل؛ كاعتراف بعض مقاتلي طالبان (خاصة الذين وقعوا في الأسر أو لا يزالون طليقين ويحادثون الصحافة) صراحة بأن سبب اندماجهم مع طالبان أو «القاعدة» وحملهم السلاح كان استياءهم من استهداف الطائرات بلا طيار لزعماء الإرهاب. لكن المؤكد، حسب اعترافاتهم وصور الوثائق، هو تلقيهم، كمقاتلين، لراتب شهري بالدولار من طالبان، يفوق راتب المدرسين وممرضات المراكز الصحية، باعتراف المقاتلين أنفسهم. فطالبان و«القاعدة» لديهما ثروات طائلة من الابتزاز، ناهيك عن زراعة الخشخاش وتجارة الأفيون والهيروين، عبر رشوة عناصر فاسدة في باكستان؛ وهناك أكثر من فتوى (من زعيم طالبان الملا محمد عمر، ومن مفكر «القاعدة» أيمن الظواهري) تبيح اتجار طالبان في المخدرات لأن ذلك يساعد على تفكيك وانهيار «مجتمع الكفار في الغرب الصليبي».

ما يثير الريبة، والقلق الشديد لدى البلدان الإسلامية، حسب دبلوماسي خليجي، هو توقيت تصريحات باكستان ورفضها طلب الـ«سي آي إيه». فتسريب الخبر، وتصريحات الجنرال حميد غل، المدير السابق لمخابرات القوات المسلحة الداخلية الباكستانية، لمراسل «التلغراف»؛ تزامنا مع زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما للهند وإطرائه على تجربتها الديمقراطية (وهي أكبر ديمقراطية في العالم اليوم) وريادتها في مجالات الاقتصاد وتحسن ميزان مدفوعاتها. التصريحات وصفها الجنرال غل بأنها «منحازة بشكل كبير نحو الهند».

التسريبات الباكستانية للصحافة تناولت رفض العسكرتارية الباكستانية التعاون مع الأميركيين في مكافحة أكبر خطر يهدد البشرية اليوم (خاصة البلدان الإسلامية الأغلبية السكانية) وهو الإرهاب الذي تشكله «القاعدة» وأخواتها في ضيافة طالبان الذين يجلدون البنات الصغيرات المسلمات في الشوارع «لتبجحهن» بحضور المدارس التعليمية أو استشارة الطبيب، ويحرقون محلات الحلاقين قاطعين أرزاقهم لمنع الشباب من حلق الذقون. والسبب كما تعزوه التسريبات هو انحياز واشنطن للهند.

فهل المطلوب من الرئيس أوباما (وهو أكثر رؤساء أميركا شعبية في البلدان الإسلامية منذ عهد الرئيس وودرو ويلسون في العشرينات)، أن ينسى مصالح بلاده بتجاهل أكبر ديمقراطية في العالم وإحدى أقواها (الفقر وعمليات العنف والإرهاب لم تزعزع إيمانها بالديمقراطية كخيار استراتيجي، ولم تدفع بضابط لاغتصاب السلطة بانقلاب عسكري) إرضاء لبعض التيارات الباكستانية.

وحجة عدم توفير ثلاث فرق، واهية، إذ يمكن تحويل ثلاث فرق من الحدود مع الهند ومع كشمير إلى مكافحة الإرهاب (بضمان أميركي مثلا خاصة أن الازدهار الاقتصادي في الهند يخلق مناخا سياسيا يحول دون اندفاع أي جنرال هندي نحو جنون العمل العسكري ضد باكستان). لكن هذا سيغضب المؤسسة العسكرية التي تخلق من الهند شبحا مخيفا مما يجبر الأمة الباكستانية على منح الجيش أولوية قبل أي مؤسسة أخرى، مما يكرر تدخلها في العملية السياسية لتعطيل الديمقراطية (وما أشبه ذلك بمؤسسات عسكرية عربية، تستبدل الهند ببلدان أخرى، لضمان سيطرتها وتعطيل العملية الديمقراطية!!).

الأخطر أن تعمد إيصال المعلومات للصحافة كـ«عقاب» أو «إنذار» لأوباما بالعواقب الوخيمة إذا لم يضع الهند وباكستان في كفتي ميزان متعادل ويعاملهما على قدم المساواة، فإن باكستان ستوقف الحرب على الإرهاب.

وفي هذه الحالة، يغيب أي مبرر منطقي للدعمين العسكري والمادي الضخمين (تلقت باكستان دعما إضافيا يفوق 10 مليارات دولار في السنوات الثلاث الأخيرة من ولاية مشرف للإنفاق على التعليم والحد من تأثير مدارس طالبان التي تفرخ أجيالا محرك إرادتهم هو كراهيتهم حتى الموت لكل من يخالفهم الإيمان الأعمى بالتفسير المتخلف والمجنون للإسلام على يد الملا عمر).

باكستان تتلقى الدعم بزعمها أنها مهددة من «القاعدة» وطالبان. إذا كان التهديد صحيحا، فإن توجيه الجيش (وواجبه - كأي جيش آخر - هو الحفاظ على أمن الشعب من أي تهديد) نحو احتواء الإرهابيين هو تكتيك في استراتيجية الأمن القومي الباكستاني بصرف النظر عن أي سياسة أميركية. لكن تحريك الجيش كقطع شطرنج في مباراة مع أميركا يكشف ضحالة مناورة إسلام آباد.

ومن المسلم به اليوم بين خبراء مكافحة الإرهاب، أن الاستمرار في مهاجمة أوكار الإرهابيين، سواء في وزيرستان، أو جبال اليمن، هو ركن مهم في استراتيجية احتواء الإرهاب، فهذا يبقي الإرهابيين، والقبائل الجبلية في البلدين التي تستضيف خلايا الإرهاب وتدعمها؛ منشغلين بالدفاع عن أنفسهم ورسم طريق هروبهم، والاختباء، حفاظا على حياتهم (زعماء «القاعدة» وأبناؤهم لا ينفذون عمليات انتحارية بأنفسهم، بل يخدعون أولاد الغير بتفجير أنفسهم، بينما يحافظون هم على حياتهم وحياة أسرهم)، وهذا الانشغال بأمنهم الشخصي يستغرق وقتا وجهدا كانوا سيستغلونه للتخطيط لأعمال إجرامية ينفذونها ضد عباد الله.

أحداث باكستان تؤثر على الخليج بشكل مباشر بسبب ضخامة العمالة الآسيوية، وعلى بقية بلدان المنطقة التي تهددها «القاعدة» (كمصر والأردن والخليج والمغرب)، وتقاعس إسلام آباد عن مواجهة طالبان يوفر للعصابة التخطيط ضد شعوب هذه البلدان.

والمطلوب من الدبلوماسيات العربية التنسيق للضغط على باكستان للمشاركة الفاعلة على الخط الأمامي في مكافحة الإرهاب، لأن مناورتها السياسة الأخيرة لا تعاقب إدارة أوباما بقدر ما تعرض أمن الخليج والشعوب العربية للخطر.