أزمة في قلب إسرائيل!

TT

منذ إنشاء الدولة الإسرائيلية في عام 1948 وأبواقها الإعلامية تحاول «بيع» فكرة أن إسرائيل دولة علمانية «جمعت» أبناءها من الشتات حول العالم وأعادتهم إلى أرض الميعاد كما وعدوا بحسب كتبهم وتعاليمهم وأنهم يقومون بممارسة حياتهم بأسلوب «اشتراكي» و«تعاوني» في مستوطنات بسيطة أطلقوا عليها لفظ «الكيبوتز»، وهي كلمة من لغة اليديش التي كان يتحدث بها يهود شرق أوروبا، ودعمت هذا التوجه مشاهد لمؤسس دولة إسرائيل بن غوريون وهو يتجول بشعره الأبيض وهو بلباس بسيط يمارس عمله في الزراعة والري.

هكذا كانت الصورة في بدايات الدولة الإسرائيلية، إلا أنه منذ وصول الحزب «الديني» المتطرف (الليكود) إلى سدة الحكم بزعامة الإرهابي الأسبق مناحم بيغن، زعيم عصابة الأرغون والمتهم بالعديد من جرائم القتل والتفجير، عاونه فيها مساعده الصغير الذي جاء رئيسا للوزراء لاحقا، إسحق شامير، بدأ صوت التطرف يظهر علنا وبلا خجل، وتعددت الأشكال التي يظهر عليها هذا الصوت وجاءت صور مختلفة له، فمن ينسى أرييل شارون وصولا لبنيامين نتنياهو وزعيم عصابته وزير الخارجية ليبرمان وهم جميعا مشبعون بالعنصرية ورافضون عمليون لفكرة السلام؟

واليوم، لدى إسرائيل تطور جديد يراه بعض اليساريين بداخلها أنه مشكلة، وآخرون يعتبرونه مسألة مطمئنة؛ فاليوم هناك أعداد متزايدة من (المتدينين المتعصبين اليهود) داخل الجيش الإسرائيلي، ولقد وصلت أعداد مهمة منهم إلى مناصب قيادية بالجيش بأعداد تفوق بكثير نسبتهم داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، والسؤال الذي يطرحه الإسرائيليون، خصوصا اليساريين منهم، هو: هل يمكن الاعتماد على الجيش الإسرائيلي بمختلف عناصره وكوادره لتطبيق أصعب الشروط في أي اتفاقيات مستقبلية مع الفلسطينيين تقتضي الانسحاب من بعض الأراضي وإجلاء المستوطنين من منازلهم بالقوة وإخراجهم منها؟ وهناك اعتقاد كبير لدى عدد غير قليل من خبراء شؤون الدفاع بإسرائيل أن هذا التوجه الديني المتشدد والمتزايد سيجعل من فكرة العصيان العام داخل الجيش مسألة مؤكدة خلال فترة زمنية ليست بالبعيدة، مع العلم أن أعدادا كبيرة من المتشددين داخل الجيش الإسرائيلي هم من المستوطنين الذين يسكنون داخل الأراضي المحتلة بعد 1967 ويتسلحون بأسلحة غير رسمية.

على الرغم من عدم وجود بيانات كافية عن ميول وهويات العسكر الدينية في إسرائيل فإن 30% من العسكر الذين يتخرجون في الدورة الأولية المطلوبة للالتحاق بالجيش يصفون أنفسهم بـ«المتدينين الصهيونيين» وهذه النسبة هي زيادة مهولة على ما كانت عليه منذ عشرين سنة، فوقتها لم تكن تتجاوز الـ2.5% علما بأن 12% من الإسرائيليين العامة يصفون أنفسهم بوصف كهذا، وبالتالي نسبتهم داخل الجيش الإسرائيلي هي أكثر من ضعف المعدل العام!

في سنوات التسعينات الميلادية من القرن الماضي، وبعد الحرب الإسرائيلية على لبنان وغزوها، اتخذ الكثيرون من اليساريين الإسرائيليين قرارا بعدم تمديد فترة بقاء أبنائهم داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لأكثر من فترة الـ3 سنوات الإلزامية لعدم قناعتهم بالمغامرات الحمقاء التي كان يقوم بها الجيش الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه كان المتشددون الإسرائيليون يشعرون بالندم لغيابهم عن الساحة عموما وبعدهم عن تشكيل هوية إسرائيل وتركها لأيادي «غير الملتزمين» وتحولت مؤسسات الدولة إلى علمانية مرفوضة، وبالتالي كان قرار الدخول وبقوة في الخدمة العسكرية هو وسيلتهم لتعويض ما فاتهم من الوقت.

هناك العديد من «الأكاديميات» التأهيلية لمرحلة ما قبل الجيش، يقوم فيها الحاخامات المتشددون بتقديم دروس التوراة والتلمود والفلسفة اليهودية المتشددة لمدة سنتين، وفي الوقت نفسه يحضر الطلاب المرحلة العسكرية ويقدمون لهم ذلك كله بأنهم أولا وأخيرا في مهمة دينية وليسوا في مهمة وطنية (وهنا مصدر قلق اليسار الإسرائيلي لأنهم يعتقدون أن هذه هي مسامير النهاية في فكرة علمانية الدولة). وأسهمت هذه الأكاديميات في تغيير الكثير من الأهداف والقيم والسلوكيات داخل الجيش الإسرائيلي وفي أفراده. هناك قلق كبير لدى الكثيرين في إسرائيل من حالة «الجد».. لمن سيستمع «المتدين المتعصب» من الجنود الإسرائيليين؟ هل سيأخذ أوامره من الحاخام أم من قائد الجيش؟ والسؤال بدأت الإجابة عنه بوجود مجموعة من آراء الكثيرين من الحاخامات المتشددين تمنع وتحذر الجنود من إجلاء المستوطنين عن ديارهم؛ لأن ذلك الأمر مخالف للوصايا العشر التي وجهت للنبي موسى من رب العالمين (بحسب اعتقادهم).

هناك مقارنة بين الوضع في غزة التي كان بها أقل من 10 آلاف مستوطن وبين الضفة الغربية التي بها أكثر من 300 ألف مستوطن، والخلاصة أن هؤلاء الجنود المتدينين المتشددين سيكونون في حالة «غليان نفسي» بين تنفيذ الأمر العسكري والانصياع للقناعة الدينية، والضفة الغربية ذات مكانة أهم من غزة لدى اليهود المتشددين. واليوم هناك تسريبات مستمرة للأوامر الأمنية ضد المستوطنين تصل إليهم عن طريق الجنود المتعاطفين لكي يجهزوا ويحصنوا دفاعاتهم قبل المواجهات.

نهاية العلمانية في إسرائيل وازدياد رقعة التطرف سيزيدان أزمة الداخل الإسرائيلي بشكل جديد ويصعبان من عملية السلام التي هي غير موجودة أصلا!

[email protected]