سنة العراق وكرده.. نوع العلاقة

TT

كثيرا ما أجد نفسي أتطرق إلى مسألة غاية في الأهمية، تتعلق بالعلاقة بين مكونين رئيسيين في العراق وهما؛ العرب السنة والأكراد، ومن المعلوم أن هاتين الشريحتين تشكلان نصف المجتمع العراقي.

طبيعة العلاقة بين الطرفين، التي اتسمت في معظم الأحيان بالحدية والاحتقان، لم تأخذ حقها من البحث والتحليل والمعالجة لحد الآن، وقد أشرت إليها عابرا في مقالي السابق من أجل إثارة قريحة الباحثين المختصين في هذا المجال ليدلوا بدلوهم ويوضحوا الأسباب الحقيقية وراء الكم الهائل من العداء المتبادل بين الجانبين «السنيين» والذي أدى في كثير من الحالات إلى مواجهات دموية مؤسفة نتيجة عدم الاكتراث واللامبالاة والتقصير في معالجة الأمر الذي تطور من سيئ إلى أسوأ حتى وصل إلى أوجه في وقتنا الحاضر، مما أنذر بعواقب وخيمة وكوارث منتظرة «على الأبواب».

على فكرة، لا أحد يغتر بالمواقف الحميمة التي يظهرها قادة الطرفين لبعضهم بعضا في مناسبات، فإنهم يخفون وراءها مشكلات «متلتلة» - على حد قول إخواننا المصريين - لا يمكن حلها بالكلام المنمق والعبارات السياسية الفارغة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ثمة قضايا ملحة ما زالت معلقة منذ عشرات السنين تبحث عن حل جدي مبني على النيات الصادقة والعمل الدؤوب، وليس على المراوغات وكسب الوقت والتحايل، لكن كعادتنا «النعامية» التي درجنا عليها نحن العراقيين، ظللنا نؤجل هذه القضايا المهمة التي لا تحتمل التأجيل وبخاصة تلك المرتبطة بالعلاقة «التعايشية» المتبادلة بين الكرد والحكومة التي كان يقودها ويهيمن عليها دائما العرب السنة. فالمشكلات بدأت وتفاقمت عندما لم يقم الطرفان بتحديد نوع العلاقة بينهما.. لا أحد أشار إلى الأساس الذي تم بموجبه دمج الشعبين مع بعضهما بعضا في دولة واحدة.

لم تشر أي من الدساتير أو الوثائق الرسمية العراقية إلى ماهية هذه العلاقة، حتى الدستور المؤقت الذي وضع في زمن عبد الكريم قاسم والذي اعتبره البعض من أعظم الدساتير العراقية وأكملها، لم يشر إلى هذه النقطة المهمة، فقط أشار إلى أن العلاقة بين العرب والكرد علاقة شراكة «العرب والأكراد شركاء في الوطن» هكذا، من دون أن يحدد نوع هذه الشراكة وطبيعتها، وما لها وما عليها، وشراكة في ماذا، في الحكم، أم في موارد الدولة، أم في المواطنة، أم في كل ذلك.. حتى إذا افترضنا أنهما يشتركان في المواطنة كما يدعون، وأنهما متساويان في الحقوق والواجبات، فلماذا ظل الكردي منذ تأسيس العراق يأخذ دور المشاهد والمتفرج، أو في أحسن الأحوال دور الكومبارس المهمل على خشبة المسرح السياسي العراقي، بينما يلعب شريكه الآخر العربي «السني» دور البطولة المطلقة بكل جدارة؟!

والمرة الوحيدة التي أشيرَ فيها إلى تلك العلاقة بصراحة ومن دون التخفي وراء مصطلحات فضفاضة كالوطنية والمواطنة والمصير المشترك، وعلى أساس قانوني واضح لا لبس فيه، كانت في عام 1970، عندما أقرت الحكومة نظام الحكم الذاتي للمناطق الكردية ما عدا المناطق التي اقتطعت منها، مثل كركوك التي تأجل البت فيها إلى إشعار آخر، حرصا على وحدة الصف الوطني وعدم المساس بمصالح العراق العليا وغيرهما من الحجج الفارغة، واستمر مسلسل التأجيلات للقضايا المهمة يأخذ طريقه إلى مطابخ السياسة العراقية حتى أصبح عادة متبعة عند السياسيين لا يمكن الاستغناء عنها.. تأجل الإحصاء السكاني في العراق لعشرات المرات منعا لحدوث الاضطرابات في المناطق المتنازع عليها!.. وتُرك العمل بالمادة 58 من قانون إدارة الدولة المؤقتة لعام 2004 التي تعالج أهم المسائل العالقة بين الأكراد والحكومة المركزية وأعقدها، فاضطر إلى ترحيلها إلى مادة أخرى وهي المادة 140 من الدستور المؤقت لعام 2005 التي لاقت بدورها نفس مصير سابقتها وأجلت لمدة أربع سنوات، وما زال الحبل على الجرار.

إن إصرار البعض على الاحتفاظ بالشكل القديم لنظام الحكم ورفض بناء علاقات صحية مبنية على أسس وقواعد معاصرة تحفظ للطرفين حقوقهما، لا يفضي إلى حل، بل يزيد الهوة ويعقد المشكلات أكثر. ويمكننا أن نستفيد من الحالة الديمقراطية السائدة في البلاد لتحديد نوع العلاقات بين المجاميع العرقية والطائفية، وبالتحديد يمكن الاستناد إلى مبادئ الفيدرالية التي أقرها الدستور ولم تطبق لحد الآن، فهي الكفيلة بوضع آلية فاعلة لتلك العلاقة.