عقلية الغيتو

TT

ربما فكرة الغيتو، أي المكان المحصور الذي عاش فيه اليهود في أوروبا في مناطق خاصة بهم، لم تغادر العقل الإسرائيلي بعد، فبعد السور الذي بني ليشق الضفة الغربية من الأرض الفلسطينية، ويعزل ما بين المستوطنين الإسرائيليين والشعب الفلسطيني، تأتي فكرة السور الثاني المزمع إقامته حول الحدود المصرية الإسرائيلية، ليكتمل الطوق، ويزيد من فكرة الانعزال عن «الأغيار» الآخرين، في نظر التراث الإسرائيلي التاريخي. مقولة السيد هنري كيسنجر المشهورة، إنه ليس هناك سياسية خارجية إسرائيلية، فقط هناك سياسة إسرائيلية داخلية، تفرض الخطوات الخارجية وتشكل مسارها، تعني أن كل السياسة الخارجية الإسرائيلية مدفوعة بضغوط داخلية وتتكيف للمطالب المتشددة ومبنية عليها.

ما نقل أيضا من فرض قانون في الكنيست الإسرائيلي بأن تكون المرجعية النهائية لأي اتفاق إسرائيلي للسلام، حول أرض الجولان السورية أو الأرض الفلسطينية المحتلة، إما بأغلبية في الكنيست أو استفتاء شعبي، تعزز فكرة الغيتو التي تحاصر العقل الإسرائيلي السياسي، وأيضا تؤكد أن محادثات السلام المزمعة وكل شعاراتها، هي في الحقيقة لعب لإضاعة الوقت، أكثر منه بحث جدي لإنصاف الفلسطينيين بتمكينهم من دولة، ولو صغيرة، على حساب أرض فقدوها، وتؤكد مقولة كيسنجر بتبعية الخارج للداخل.

مجموعة الخطوات التي يتخذها السيد نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي تدل - دون عناء شديد - على أن فكرة السلام العادل غير واردة، ليس بسبب رغبته في الاستحواذ فقط، بل وأيضا بسبب التركيبة النفسية والسياسية لمعظم أو لكثير من المواطنين الإسرائيليين.

فكرة الغيتو بأشكالها المختلفة ليست جديدة على العقل الإسرائيلي، الجديد، وهنا الأهم، أنها قد أثرت في الفلسطينيين أنفسهم، وقد قيل إن المُحتل - بشكل ما، يؤثر في الشعب الذي خضع لاحتلاله، مباشرة أو مداورة، ويبدو أن الفلسطينيين قد تأثروا من جانب آخر في تحديد خياراتهم، فليس لديهم سياسة خارجية ورؤية، سياستهم انعكاس لمزايدات داخلية.

الانشقاق الفلسطيني هو غيتو آخر، واحد في غزة، والثاني في الضفة. المخاطر التي يواجهها الفلسطيني، سواء المواطن العادي أو السياسي أصبحت أكثر جدية من أي وقت مضى، ومع ذلك فإن التشرذم الفلسطيني اليوم بين قوى وتيارات أبرزها حماس وفتح وآخرون تتجذر، وتغذي الشره الإسرائيلي كما تعطل أي عمل دولي - غير التعاطف الإنساني.

الرهان في الغيتو الفلسطيني أصبح خاسرا، فلا شيء ملموسا يأتي من الإدارة الأميركية، فلا هي تستطيع أن تتجاوز التراث العميق الذي يؤثر في قرار متخذيه في الدوائر العليا الأميركية، جراء تراكم الضغوط التاريخية من المتنفذين الموالين لإسرائيل في دوائر الإدارة والحكم الأميركي، وفي الرأي العام المتأثر بإعلام صادح، ولا وجود لضغوط جدية معاكسة، سواء في أوساط الجمهور الأميركي، أو اللوبي العربي، حيث إن التأثير العربي - مصالح أو قوى ضغط - غير موجود أصلا. إذا أضفنا إلى ذلك الأزمة المالية العالمية التي تعصف باقتصاد عدد كبير من دول أوروبا، وأيضا العجز الهائل في الميزانية الأميركية، كل هذا يدعو العالم الغربي إلى الاهتمام بالاقتصاد قبل غيره من هموم العالم الآخر، حيث يشكل بقاء أو فشل الحكومات القائمة على معالجته. فلا إشاعة الديمقراطية هي الهم المقيم للإدارة الأوروبية - الأميركية كما فهم بعضنا، ولا إشاعة العدل هي الأخرى أولوية في نظرهم.

بقي الأمن الإسرائيلي الذي بدأ يطوق نفسه في غيتو داخلي وجدار وقائي دولي. هذا الأمن لا تهدده صواريخ محدودة الفاعلية لدى بعض القوى الفلسطينية، بل تصبح هذه الصواريخ بشكل ما، ذريعة لمد القبضة الحديدية الإسرائيلية للضرب على رؤوس البسطاء والفقراء مع قبول ضمني من معظم المجتمع الدولي.

حقيقة الأمر أن أفضل خدمة يقدمها الفلسطينيون والعرب لعدوهم الإسرائيلي، هو هذا الغيتو الذي فرضوه على أنفسهم، تحت أوهام عديدة، بعضهم يرى في القوة الإيرانية احتمال ضغط ما على إسرائيل، أرى أن هذا وهم كبير، فالقوة الإيرانية، على أي شكل وجدت، هي أصلا لحماية المصالح الإيرانية، لا لتحرير فلسطين، فإدامة الغيتو في غزة مراهنة على هكذا قوة محتملة هي انتظار للسراب، كما أن انتظار «العدل الدولي» في الضفة الغربية هو انتظار سراب. فك الغيتو الفلسطيني في كل من غزة والضفة هو عين العقل، إلا أن المشكلة هي التأثير الذي يبدو أنه لا فكاك منه بطريقة محاكاة تفكير المحتل، اضرب حصارا على نفسك وانتظر الفرج!

المشكلة هي أن هذا الغيتو، أو فكرته على الأقل، انتقل إلى العرب خارج فلسطين، فسهل أشكالا من التدخلات في شؤونهم، فها هي العمامة الإيرانية والطربوش التركي، يصولان ويجولان في ربوع العرب، المتحصنين بشكل من أشكال الغيتو حولهم، إلى درجة أنهم على استعداد للحديث مع الشيطان دون الحديث مع بعضهم. حتى لو افترضنا حسن النيات من العمامة والطربوش، فمن السذاجة أن يتوقع عاقل أن يقدم الآخرون مصالح العرب العليا على مصالحهم.

مدرسة وضع اللوم من جهة، أو الأمل من جهة أخرى، على الآخرين يجب أن تتوقف، وأن يفكر الفلسطينيون وبعدهم العرب، بطريقة أخرى مختلفة، كما يقال - عليهم التفكير خارج الصندوق - أو خارج الغيتو.

أول إمكانية حقيقية لمواجهة هذا التحدي في نهاية العشرية الأولى من القرن العشرين، أن ننظر إلى أنفسنا. فلسطينيا - الوفاق الفلسطيني، الذي يبدو بسبب التنافس على المصالح الضيقة بعيد المنال، هذا الوفاق المرغوب هو المدخل الذي لا مدخل قبله للخطو نحو تفكير جديد. وتاريخ القضية الفلسطينية - مع الأسف - يقدم لنا الكثير من الشواهد منذ أيام العائلات الكبرى وتنافسها في القرن الماضي، إلى تنافس الأبوات (أبو فلان وأبو علان) اليوم، ما يدعونا إلى القول إن جرثومة النزاع العبثي هي كعب أخيل في القضية الفلسطينية. وعلى الصعيد العربي هذا التنازع المرضي الذي هو كعب أخيل آخر، كلاهما مكلف لكل الأفرقاء مباشرة أو مداورة، ومدخل لقوى لها أجندتها المختلفة عن مصالح العرب.

ما ينقص الفلسطينيون وخلفهم العرب، هو طرق تفكير جديدة، تحول النزاع إلى إبداع والاختلاف إلى وفاق، لا اتباع أعمى لسيرة المحتل، ببناء غيتو حول جماعات منفصلة متناكفة تعطل القوة المفترضة وتستنزف الطاقات وتقود أخيرا إلى خسران للجميع، حيث تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، كما يعرف عدوهم.