نحن واليابان

TT

في ثلاثينات القرن المنصرم طرح الأمير شكيب أرسلان سؤالا حاسما ومحيرا معا: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ سيغدو السؤال المذكور شهيرا في ثقافتنا العربية الإسلامية وعلى غراره، وربما استحياء منه، سيطرح المثقفون العرب المعاصرون أسئلة أخرى أحدها، وأكثرها تداولا، هو السؤال المتصل بالأسباب التي أصبحت اليابان بموجبها في عداد الدول المتقدمة، في حين أن البلاد العربية لا تزال ترسف في أغلال التأخر، تقنع من ركب الإنسانية المتقدمة بالصفوف الأخيرة. ذلك أن قناعة أخذت ترسخ في الأذهان مفادها أن المماثلة بين العرب وبين اليابانيين ليست ممكنة فقط، بل إنها واجبة متى توخينا البحث عن دواعي التأخر العربي. الرأي السائد في الكتابات العربية المعاصرة هو أن حال اليابان في النصف الثاني من القرن الـ19 مشابه لحالنا من أوجه كثيرة. كذلك غدا من المألوف عقد مقارنات بين محمد علي وبين الميجي، في اليابان، وبين هذا الأخير وبين السلطان العلوي في المغرب (الحسن الأول)، أو بينه وبين خير الدين التونسي من حيث المحاولات الإصلاحية التي قادها أو دعا إليها. ونحن في المغرب، في التعليم الذي تلقيناه في مدارسنا الثانوية، كنا نجدنا أمام ضرورة التساؤل المشروع التالي: إن السلطان الحسن الأول، وقبله والده محمد الرابع، قد أرسلا إلى البلدان الأوروبية المختلفة بعثات تعليمية لتلقي المعارف الحديثة في مجالات متنوعة، كما صنع معاصره محمد علي في مصر في الوقت ذاته الذي أوفد فيه الميجي بعثات تعليمية إلى أوروبا، فلماذا نجحت التجربة في اليابان وفشلت في المغرب؟ لماذا أدمج اليابانيون المتعلمين في مدارس التكوين في الغرب، في حين أن وفود العائدين من أوروبا، بعد التكوين المتين، ظلت تعيش على هامش الحياة العامة؟ يمكن القول، بكيفية أخرى، إن المثقفين المعاصرين العرب درجوا على عقد المقارنات بين «النهضة العربية»، وبين «النهضة اليابانية»، مثلما أن شرعية المقارنة أصبحت عقيدة مقررة.

يحدوني الرجوع اليوم إلى حديث المقارنة هذا بيننا وبين اليابان، وإلى النظر في هذه الهوة التي تزداد اتساعا بين الوطن العربي وبين بلد التكنولوجيا الخرافية والقوة الاقتصادية الفائقة، ما أثاره في الفكر من تساؤلات عميقة ومن تنبيهات رصينة ذكية معا الكتاب الذي نشره، مؤخرا، مركز دراسات الحدة العربية في بيروت للكاتب المغربي الدكتور محمد أعفيف تحت عنوان «أصول التحديث في اليابان (1568-1868)». الحق أن الكتاب مراجعة شاملة، جذرية، لقضية المقارنة هذه بين العرب المعاصرين وبين اليابان وحمل على إعادة النظر، كلية، في السؤال ذاته: لماذا تقدمت اليابان الحديثة، في حين أننا لم ننل شيئا من ذلك؟ والحق أيضا أن الصديق الدكتور رضوان السيد كان دقيق النظر قوي الملاحظة، إذ ذكر، في تقديمه للكتاب، أن «دراسة أعفيف تقدم جديدا في قضايا ومسائل التجربة اليابانية للنهوض والتقدم». والمجال، في هذه الزاوية ليس، على كل، مجال تقييم الكتاب ولا المكان الأنسب للخوض في جدل أكاديمي يبعدنا عن الهموم المباشرة التي تحملنا على الحديث في هذه الصفحة من «جريدة العرب الدولية». غير أنني أفيد من قراءة كتاب الدكتور أعفيف إفادات في التأمل النقدي في قضية النهوض العربي وأصناف العوائق التي تقوم في وجه النهضة المأمولة.

ربما كان أول ما يجب عمله في حديث المقارنة بين اليابان وبين الوطن العربي، هو محاولة التخلص من وهم المقارنة الممكنة، إذ لا شيء يحمل على ذلك، فمن جهة أولى ليس صحيحا ألبتة، كما صدقنا ذلك عقودا كثيرة، أن التشابه موجود بين العالمين في نهاية القرن التاسع عشر. يكفي أن نقارن بين واقع الأمية التي كادت تقارب المائة في المائة في عموم البلاد العربية، وبين نسبة التعليم في المدارس التي بلغت 97 في المائة في اليابان. وثاني شيء يلزم طرحه جانبا، هو الاعتقاد بأن قطيعة تامة ومطلقة تقوم بين اليابان المعاصرة وبين بلاد الساموراي في القرون السابقة، إذ لا شيء أكثر خطأ من هذا التوهم، ذلك أن الحلقات متصلة وأن السابق يمهد للاحق والبلد قد شهد نهضة منذ قرون سابقة على عصر الميجي الذي يكثر المثقف العربي الإشادة به واعتباره بدءا خالصا للنهضة اليابانية. ربما وجب الانتباه، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن نسب التعليم، في القرن السابع عشر، كانت تفوق 40 في المائة عند الذكور وتقل عن 10 في المائة عند الإناث، في الوقت الذي لم تكن لتبلغ خمس أطفال مدن بريطانيا في الفترة نفسها. ولعل الصورة تتضح على نحو آخر متى علمنا أن الكتاب الواحد كانت تطبع منه عشرات الآلاف من النسخ (من ذلك أن كتابا يتحدث عن أوروبا وأحوال الغرب الأوروبي قد طبع منه، في سبعينات القرن السابع عشر، ربع مليون نسخة). قد يلزم التنبيه كذلك إلى أن كيوطو، العاصمة الأولى للبلد، وطوكيو وغيرهما من الحواضر، كانت تعج بالمسارح والمنتديات الأدبية والمكتبات العمومية في الفترة التي نتحدث عنها، في الوقت الذي كانت فيه نسب التحضر وظواهر المدن الكبرى، وهي على العموم روافد العلم والمعرفة ومجالات الأنشطة الثقافية المتنوعة، لا تزال ضئيلة في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا. تتعدد الإشارات وتتنوع، ولكنها، حين النظر في التاريخ الياباني الثقافي، تلتقي كلها عند التسليم بحقيقة أولية رجع الفضل في تنبيهنا إليها إلى الجهد الصادق الذي بذله الدكتور أعفيف في دراسته القيمة «أصول التحديث في اليابان»، هذه الحقيقة، بل المسلمة، هي كما يقول في عبارة بسيطة: «إن التاريخ الياباني لا يجد مفاتيح فهمه إلا في التاريخ الياباني ذاته». لا غرو أننا نفيد من الدرس الياباني إفادات ما أحوجنا نحن العرب إليها. الرأي عندي أن أهم تلك الإفادات وأغلاها هي الثقة في النفس التي نكاد اليوم نضيع القليل الذي بقي منها. اتصل اليابانيون بالحضارة الصينية فأخذوا منها أسبابا شتى (التعاليم الكونفشيوسية، ورموز الكتابة، ونظم الحكم والإدارة، وفنون الشعر، والعمارة، وتخطيط المدن، وتعبيد الطرق، وأمورا أخرى غير ذلك)، غير أنهم عرفوا كيف يحافظون على الإرث الأصلي، وكيف يكون في الوسع تطويره، مع أن الاتصال بالفكر الصيني اتصل قرونا غير قليلة. ثم كان الاتصال بالغرب، منذ القرن السادس عشر، بعد احتجاب عن العالم أمدا غير يسير على النحو الذي نعته المؤرخون الغربيون بالعزلة اليابانية، ومن الغرب الأوروبي أخذوا أسباب التطور التقني ليبزوا الغرب كله بعد ذلك. يتحدث الغربيون عن «المعجزة اليابانية» على النحو ذاته الذي كان السابقون عليهم من مفكريهم يتحدثون عن «المعجزة اليونانية» التي أذهلت العالم القديم.

والحال أنه لا معجزة هناك، وإنما هي دورة حضارية يتم فيها التفاعل والتلاقح ويكون بموجبها الصعود من جهة والانحدار من جهة أخرى. الدرس الياباني الأكبر هو درس الإرادة والإصرار والحرص على مساءلة الذات عن المكونات العميقة التي بموجبها تكون الحضارات وتصمد الأمم.