«القاعدة».. أين في جزيرة العرب؟

TT

«القاعدة» ليس لها مركز قيادة يمكن تدميره، وليست تنظيما سريا له سجلات يمكن العثور عليها ومتابعة المسجلين فيها، غير أن لها بالتأكيد محل إقامة، أو محلات إقامة تبادلية بعناوين مختلفة بحيث لا يتم القضاء عليها عند تدمير أحد هذه العناوين. هي أقرب إلى أن تكون طاقة شر وعدوان موزعة على عدد من القلوب والعقول في كل مكان على وجه الأرض. بذلك تكون أقرب في تكوينها إلى الخلايا العنقودية التي تعمل بغير وصول أوامر محددة إليها وبغير وجود ما يسمى بالخطة الاستراتيجية المفصلة، كل ما هو عدوان، كل ما هو شرير، كل ما يصيب البشر في أي مكان على وجه الأرض بالحزن والفزع والتعاسة هو جزء أصيل من أهدافها. وتفسير ذلك أنه لسبب من الأسباب أو لعدد منها، يتوقف نمو الذات العليا أو ما نسميه الضمير، داخل الجهاز النفسي لبعض البشر، فتقوى غريزة الموت التي بسميها أحيانا فرويد، غريزة النفس (Ego instinct) إلى الدرجة التي تستولي فيها على مبدأ اللذة (Pleasure instinct) مخلية الساحة لأقوى غرائز البشر وهو العدوان لكي تمارس عملها بغير رقيب أو ضوابط. هذه هي بالضبط - كما أرى - آليات التفكير داخل الجهاز النفسي عند المتطرف الإرهابي.

ربما تدهش عندما أقول لك إن المتطرف الإرهابي يعاني من نفس الخلل النفسي الذي يعانيه الفنان المبدع، ولكن آليات التفكير عنده - عند المتطرف - تدور بطريقة عكسية. فإذا كان الفنان والعالم أيضا يعالج خلله النفسي بالإبداع، بإقامة جسر يحمل الخير وحب الحياة والأمل للناس، فالمتطرف يقيم نفس الجسر ولكن ليحمل بضاعته من الشر والكراهية والعنف والعدوان إلى سائر البشر. غير أنهما في نهاية الأمر يشتركان على الأقل في صفة واحدة هي: الدعاية.

من المستحيل للمنتج السينمائي والمسرحي أن ينزل إلى الأسواق بإنتاجه بغير إعلانات وملصقات وأخبار متفرقة تلفت الأنظار إلى عمله الفني. وهنا سنجد أن الإرهابي يحظى بفرصة في الدعاية والإعلان أكبر بكثير من الفنان، يكفي أن يصدر بيانا يعد فيه الناس بمزيد من الشر لتتلقفه كل وسائل الإعلام محققة - مجانا - هدفه وهو الدعاية لجريمة تمت أو عدة جرائم أخرى يعد بها الناس.

تأمل معي آخر حملة دعائية إرهابية في العالم، هو فيلم شيطاني جديد فكرته مبنية على ضرب وسائل الشحن الجوي للاستمتاع بما يسببه ذلك من خسائر لأميركا، لم أهتم كثيرا بفكرة الفيلم نفسه، ليس فيه جديد، من الطبيعي أن يستخدم الإرهاب أي وسيلة لضرب كل ما يحتاج البشر إليه ومن بينها وسائل النقل. ولكن لماذا صدر البيان إذن؟ هل أنتج هذا الفيلم لتحذير السلطات الأمنية في المنطقة العربية وبقية دول العالم، ودفعها لاتخاذ مزيد من اليقظة وإجراءات الحماية؟

أستبعد ذلك تماما، بمنطق الإنتاج الفني ووسائل تسويق المصنف الفني أقول لك: المقصود من هذا الفيلم، ليس الفيلم في حد ذاته، بل تثبيت عنوان واسم الشركة المنتجة في أذهان البشر جميعا، وهو هنا.. القاعدة في جزيرة العرب، هذا هو ما يقصده بالضبط المنتج صائغ البيان، هو يريد أن يقول للناس جميعا.. نحن هنا أيها السادة في جزيرة العرب. الواقع أنه لا يوجد على الخرائط مكان بهذا الاسم، الاسم المعروف هو الجزيرة العربية، ولكنه يريد أن يتخطى أسواق الجزيرة العربية المحدودة في نهاية الأمر، وربما القادرة أيضا على الدفاع عن نفسها، لكي يوحي بأن ما ينتجه من شر من إنتاج العرب جميعا.. إنها القاعدة في جزيرة العرب، يعني في كل مكان يسكنه عربي.

هكذا نرى أن «القاعدة» عندما أقلعت من مهابطها في الجحيم، أخذت تطير فوق الأرض على جناحين، الأول هو الإساءة لسمعة المسلمين الذين يعيشون في الغرب، وإشاعة الخوف بينهم ومنهم في المجتمعات التي يعيشون فيها، والجناح الثاني هو ضرب سمعة العرب جميعا في مقتل.

على الرغم مني سأستخدم العنوان الذي أعلنته الشركة المنتجة للشر، وأسأل: أين في جزيرة العرب؟

أين تقع استوديوهات هذه الشركة التي تكتب وتراجع فيها نصوص الشر التي تنوي إنتاجها؟ وكيف تسمح لها الدولة بالإقامة على أرضها وأخذ راحتها في التخطيط لإقلاق راحة البشر سكان الأرض جميعا.

هنا أشعر بحرج بالغ فليس مسموحا لي أن أتطوع بذكر اسم الدولة التي أنشأت فيها «القاعدة» قاعدة لها، وذلك لسبب واضح هو ضرورة توفر الأدلة الدامغة والمعلومات الموثقة عند الكاتب لتعطيه الحق في ذكر اسمها.

المسموح لي فقط مهنيا وأخلاقيا هو أن أقول لك، «القاعدة» لم تخطئ، لا أحد يخطئ عندما يمارس عمله الذي لا يجيد غيره، الخطأ هو خطأ الدولة التي يعيشون تحت سمائها. وهو ما أطلب من المسؤولين عنها - عن الدولة - مراجعته. في البنوك يقولون، اعرف عميلك، وبالنسبة لرجل الدولة نقول له اعرف مواطنك. في غياب الدولة نعود لمراحل سحيقة في التاريخ، إلى ما قبل اكتشاف الدولة، الدولة يجب أن تعرف مواطنها وتؤرخ له منذ لحظة مولده، بل اسم القابلة التي ولّدته، وتعطيه شهادة تثبت تاريخ ميلاده، وعند سن معينة تعطيه بطاقة هوية مثبت فيها عمله وعنوانه، وعندما يموت تعطي أهله تصريحا بالدفن. الدولة تتلقفه لحظة نزوله على الأرض وتودعه عند نزوله تحتها. وليس الهدف من كل ذلك هو تسهيل عملية الاستبداد به، بل لتوفير الأمن والحرية له، يعني أن تصل إليه بسهولة للقبض عليه، أو لحمايته من خطر يتهدده. المعرفة إذن ليست وقفا على المفكرين والفلاسفة، وعلى رجل الدولة أن يعرف أن المعرفة واجب من المستحيل الإفلات منه. من هنا جاء حق الدولة في أن تكون المحتكر الوحيد للعنف، الدولة وحدها هي صاحبة الحق في حمل السلاح، وليس لأحد أن يحمل سلاحا ولا على سبيل الزينة، لا أحد من حقه أن يحمل سلاحا إلا من ترخص له الدولة بذلك على سبيل الدفاع الشخصي عندما يتطلب الأمر ذلك.

الدولة لا تصنعها المقولات ولا الشعارات ولا المهرجانات الثقافية والفنية والرياضية، المعرفة بخصائص الدولة هو ما يصنع الدولة ويحميها، وأهم هذه الخصائص هو أنه لا أحد فوق الدولة، لا أحد من حقه أن يختبئ في مكان لا تعرفه الدولة أو تعجز عن الوصول إليه. وفي المقابل، سيكون من الخطر أن يتجاهل رجل الدولة أن وظيفته الأساسية هي حماية مواطنيه وتوفير العدل لهم.