عصير قومي أصولي!

TT

قبل أيام كنت أشاهد حوارا ممتعا للممثل السوري جمال سليمان على فضائية «دريم» المصرية. اللقاء كان منوعا وفيه جوانب من الشؤون الشخصية والفنية والحياتية للفنان، الذي أحب إتقانه لعمله.

ما لفت انتباهي حينما تم توجيه سؤال للفنان «التقدمي» القومي عن موقفه من الأحزاب الدينية السياسية؟ فرد بعد تأمل أنه ضد فلسفة هذه الأحزاب، بوصفه رجلا تقدميا، لكنه استدرك بسرعة وقال أنا مع «المقاومة» دون أن يعني ذلك أنني مع حزب الله وحماس...!

وهو ما أثار ربما حيرة المذيع، وحق له، فكان أن قال للفنان إنه لو وجد جماعات غير أصولية تمارس فعل المقاومة لساندها، رغم إشارته المقتضبة لجماعة الجبهة الشعبية وغيرها، ولكن، وبما معناه «ما باليد حيلة» ليس إلا حزب الله وحماس.

نسي الحوار أن يشير إلى أن هذه «المقاومة» ضد المحتل، ليست موجهة فقط إلى المحتل الإسرائيلي، فهناك احتلال أميركي وقبله روسي وهناك احتلال صيني لإقليم تركستان المسلم، وهناك احتلال فلبيني مسيحي لأقاليم مسلمة، وهناك أنواع متعددة من أشكال الاحتلالات، ضد المسلمين أو العرب، وهذا ما يقتضي مقاومة يجب دعمها والدفاع عنها، طبقا لبعض المثقفين العرب أمثال الفنان جمال سليمان، بصرف النظر عن اختلافنا مع فلسفة هذه الجماعات وتفسيرها المتزمت للدين والحياة والمجتمع.

مثلا، طالبان في أفغانستان، تقاوم أميركا و«عميلها» كرزاي، في البلاد، فهل يجب دعمها، طبقا لهذا المنطق، دون أن يعني هذا أننا نساعد في تمكين طالبان من حكم البلاد، ثم تطبيق نموذجها في الحكم وإدارة المجتمع والعباد والبلاد؟!

مثال آخر، «القاعدة» في العراق، ما هو الشيء الذي يجعلنا، وفق هذه «الحصافات» السياسية، نمتنع عن دعمها أسوة بحماس وحزب الله، هنا محتل أميركي وهناك محتل إسرائيلي، هنا جماعة أصولية وهناك جماعة أصولية، وليس مهما اختلاف «درجة» الأصولية، ففي النهاية كلها تغرف من معين واحد في السيطرة، برؤية دينية خاصة، على الحياة والمجتمع والدولة. وما فعلته حماس في إقليم غزة الفقير والمكتظ، مجرد عينة صغيرة لحلم هذه الجماعات في إدارة حياة الناس وتفسيرها وتسييرها وفق ما تريد.

الاستغراب، لا يخص الفنان سليمان لوحده، بل يتعلق بخطاب مراوغ ومخادع للذات يمارسه كثير من المثقفين والمبدعين العرب «العلمانيين» تجاه الجماعات الأصولية التي تمارس فعلا «مقاوما» ما، هنا أو هناك، حيث دأب هذا الخطاب على التمييز بين المقاومة، كفعل «نضالي» وبين ثقافة الجماعة التي تقاوم.

هذا تفريق صعب التصور والفهم، لأن المقاومة نفسها ممتزجة بثقافة الفرد المقاوم، هي كلها أجزاء مترابطة مع بعضها، لا يمكن الفصل بينها، يكفي فعل الانتحار أو «الاستشهاد» الذي اشتهرت به هذه الجماعات، هذا فعل غاية في الامتزاج بثقافة أخروية تستند إلى أساس أصولي ديني ضارب في الجذور، فكيف نفصل بين قمة جبل المقاومة وقاعدة هذا الجبل التي تمتد على مساحة عريضة من إدارة المجتمع والموقف من الفنون والحريات العامة وفكرة القانون وفصل السلطات وعلاقة الدين بالدولة والعلوم.. وعشرات الإشكاليات الأخرى التي هي صلب خلاف الفكر العلماني مع الفكر الأصولي.

من الأساس، كانت القومية العربية تعاني من ارتباك فكري وتنظيري في تحديد علاقتها بالدين، الإسلامي طبعا، هناك من تجاهل الإشارة إلى هذه الإشكالية، أو مر عليها مرور الكرام، وهناك من كان أكثر صراحة في القول بأن سبب ضعف تمكن الفكرة القومية من عقول وقلوب الشعوب العربية بشكل عميق هو رجال الدين الذين قاوموا بقوة هذه الفكرة «الجاهلية» والتغريبية في نفس الوقت، كان «عراب» القومية العربية ساطع الحصري من أكثر مفكري القومية العربية الذين تصادموا مع رجال الدين ودعا إلى «قومية علمانية» وطبق ذلك أثناء توليه لمهام التربية والتعليم في العراق وسورية، وحورب من الجماعات الدينية، بالذات الإخوان المسلمين، بسبب ذلك، كما يذكر الباحث محمد عمايرة في كتابه عن ساطع الحصري.

ظل الحصري على موقفه هذا حتى مات 1968، لكن بعض التيارات القومية الأخرى، حاولت تجيير قوة الإسلاميين إلى حسابها، عبر «حقن» الفكرة القومية في شرايين الإسلام نفسه، ولذلك كان مفكر البعث الأول ميشيل عفلق، المتحدث والمنظر الذي لا يجف لعابه ولا حبره عن القول بأن الإسلام في الحقيقة ما هو إلا «رسالة العرب» للعالم، وأن افتراض وجود صراع بين العلم والدين والدولة في العالم الإسلامي ليس إلا افتراضا خاطئا مستنسخا من الإشكالية الغربية، وقال في محاضرة ألقاها عام 1943 في ذكرى الميلاد النبوي، إن «انفصال القومية عن الدين في الغرب منطقي لأن الدين (وفد) إليه من الخارج، بينما هذا الانفصال مصطنع بالنسبة إلى العرب، لأن الإسلام يفصح عن شعورهم ونظرتهم للحياة ويعبر عن شخصيتهم العربية». حسبما يذكر عمايرة في كتابه الآنف الذكر.

غني عن القول إن هذه ليست إلا مراوغة في السرد التاريخي وتأويله، وفوق هذا لم يكتب لها النجاح في «حقن» الفكرة القومية داخل شرايين المسلمين ومن ثم سحب جاذبية هذه الجماعات الأصولية المنافسة من صدر الجمهور، على العكس، التقط الإسلاميون هذه الحجة العفلقية، لصالحهم، وللرد على خصومهم الذين يقولون إن الأصولية السياسية ضد العلم والمدنية والدولة الحديثة، فقالوا، بعدما «أسلموا» لسان عفلق، نحن لسنا كالغرب، وقصتنا مختلفة، وطرحنا لا يعادي العلم والمدنية... وأكملوا بقية الجدلية العفلقية إياها، كان محمد قطب شقيق سيد قطب أكثر من لهج بهذه الفكرة ورددها بحماس، وبعده تلميذه السعودي الشهير سفر الحوالي. وغيرهما.

الحق أن محاولة كثير من القوميين العرب، وبعض اليسار العربي تقديم دعم للجماعات الأصولية يتجه مباشرة لفعل المقاومة لديها دون أن يسري هذا الدعم إلى بقية الجسد الأصولي، هي نوع من «السذاجة» أو الرومانسية إذا أحسنا النية، أو نوع مع «عبادة» فكرة النضال والمقاومة دون أن يكون للعقل، والتعقل، كالعادة، أي دور في هذه الأجواء الملبدة بالبخور والنذور.

إنها حفلة خداع كبيرة للذات، أو إنها نوع من الإيغال في معاداة الأنظمة العربية لدرجة الفناء العام... فناء النظام وخصومه معا، على طريقة ابن الزبير مع مالك الأشتر:

اقتلوني ومالكا

واقتلوا مالكا معي!

[email protected]