الرئيس طالباني و«الحصان الخاسر»

TT

من دون تنسيق مسبق، توجهت إلى باريس للقاء الرئيس طالباني بعد إعادة انتخابه. وكان اللقاء فرصة ثمينة في وجود الصديق الحميم كوسرت رسول، نائب رئيس إقليم كردستان. فهو والرئيس يعرفان تماما أنني من مؤيدي وجود المشاكسين السياسيين، في الأوقات التي تتطلب فيها المواقف الصعبة وجودهم. فهؤلاء في الغالب فتية متحمسون لكبح الغلو. بيد أن انسحاب أكثر من خمسين عضوا من «العراقية» في لحظة التصويت على انتخاب الرئيس لم يكن موفقا. فقلت له: «لم تكن غايتهم رفض تجديد ولايتكم، وإنهم يعرفون كفاية ما لديكم من الأصوات».. فلم ألمس في مشاعره أثرا لما حدث. وطيلة اللقاء لم يستخدم من قريب أو بعيد عبارة «الحصان الخاسر» التي أثيرت حولها ضجة كبيرة، توصيفا لفشل «العراقية» في الوصول إلى غايتها. فعلاقته بعلاوي بقيت على الدوام ودية، وبقي حريصا على مساندة العرب السنة، وفي مجالات تنفيذية كان يزيد كثيرا ما حرصت عليه من دعم غير محدود لهم أيام ضعفهم «السياسي».

خلال اللقاء، تحدث الرئيس عن الموقف الإقليمي. وسبق أن عبر لي عن رأيه قبل نحو شهرين، خلال فترة توقف الطائرة في لندن، وهو في طريقه إلى نيويورك، عن قناعته بأن المالكي هو الأوفر حظا في تشكيل الحكومة. وهذه المرة تحدث عن المواقف الإقليمية والداخلية. ولمست حرصا مميزا على علاقته مع خادم الحرمين الشريفين، حيث طلب من فريقه أكثر من مرة تأمين اتصال للاطمئنان على صحته. وقلت له: «كانت تهنئة الرئيس مبارك سريعة ومميزة»، فأظهر سعادة بها. ولم يعبر عن انزعاج من الموقف التركي قبل أن يعاتبهم علنا. لكنه تمنى لو كان هذا الموقف بمستوى حرصه على علاقات قوية مع تركيا. ففي مرحلة ما، طلب من وزير الداخلية التعاطي الجدي مع الهواجس والمعلومات التركية عن وجود واجهات لحزب العمال الكردستاني في بغداد.

واستنتجت أن تجديد ولاية طالباني عزز عراقية الكرد بصدق يتطلب المراجعة الشاملة لطرق معالجة الملف الكردي. وحتى لو تكررت الحالة مستقبلا لمرة أو مرتين «غير مؤطرتين بفرضيات ملزمة»، لصالح مرشحين كرد، وأظنها ستكون في المرة المقبلة لبارزاني، فلا ينبغي تحسس شريحة من عرب العراق. فالوجود الكردي في بغداد ضروري لعقد آخر على الأقل، لموازنة العلاقات وكبح الغلو، على أن يقرن بعلاقات تفاهم استراتيجي.

وتعيدني هذه الرؤية إلى عام 1991، حين حل الرئيس طالباني ضيفا علينا في بغداد (لإجراء مفاوضات مع الحكومة العراقية آنذاك).. وقلت له حينها: «يا أستاذ أبا بافل، نحتاج إليكم في بغداد فاتركوا الجبال»، وهذا كان رأيي وليس رأي القيادة. ومهما اختلفت الظروف والنيات فإن الغاية بقيت متقاربة. وحاولت بكل طاقتي الدفع باتجاه الاتفاق. والسيد بارزاني يذكر أن نائب رئيس مجلس قيادة الثورة قال تعقيبا على ثنائه عليّ: «إن اللواء وفيق نصفه معنا ونصفه الآخر معكم. والحقيقة أنني كنت مع الاتفاق لا أكثر».

الدلائل الحالية تشير إلى أن الحكومة ستتشكل ضمن المدة الدستورية، وسينال الكرد ما يصبون إليه، لأن مطالبهم في الحكومة الاتحادية لا تشغلهم عن اهتمامات أهم. وسيكون وضع «العراقية» شاقا، وكذلك الوضع داخل البيت الشيعي، الذي فرض التنوع داخله التأخر شهورا قبل القرار على مرشح رئاسة الوزراء. فالصدريون في حالة صعود، وربما يصبح صعودهم صاروخيا. والشهرستاني والدباغ حققا تقدما غير عادي، وهذا كله ساعد حزب الدعوة في غايته الحالية، لكنه قد يعرض سلطته للتآكل، لأن لهؤلاء مشاريع خاصة بهم.

كثيرون يعتقدون أن الكرد عبء على العراق، وقبل سقوط النظام السابق كنت أفضل لو انفصلوا وخلّصوا العراق من مطالبهم. أما الآن، فإن وجودهم أصبح حاسما في تطبيق نظرية التوافق في الحكم، ومن دونهم سيتعرض العراق لموجة خطيرة.. وهذا ليس وقت التفصيل. وكل من يقول إن الكرد هم سبب الانقسام العربي داخل العراق يجافي الوقائع. وأتمنى ألا يفسر هذا التصور بأنه دفاع عنهم، ولا أخفي وجود حالة من جفاء بيني وبين بعض سياسييهم.

المنطق يفرض إعطاء أعضاء التوليفة الجديدة فرصة اتباع خيارات وطنية لا طائفية. فإن فعلوا يسجل لهم، وينتقل العراق إلى وضع أفضل. ومن ينكث سيواجه متصدين سياسيين وإعلاميين وبرلمانيين وقانونيين.. وكل ما لا يمس الهوية والإنصاف يبقى هينا وقابلا للنقاش.