الأزمة العراقية والدور العربي

TT

بعد ما يربو على ثمانية أشهر متتالية من الفراغ السياسي والتجاذب المزمن، توصلت الكتل العراقية الرئيسية في نهاية المطاف إلى نوع من الاتفاق على تشكيل «حكومة شراكة وطنية»، وهو اتفاق أبقى نوري المالكي في موقعه رئيسا للوزراء، وجلال طالباني رئيسا للجمهورية مع التزام هذه الكتل بتشكيل مجلس للسياسات الاستراتيجية، قيل إنه سيتولى رئاسته لاحقا إياد علاوي رئيس القائمة العراقية. بيد أنه ومنذ الجلسة الأولى لانعقاد البرلمان الذي نال رئاسته أسامة النجيفي، أحد زعماء القائمة العراقية، وقبل أن يجف حبر التوافقات السياسية المبرمة، عادت الأمور إلى ما يقرب من نقطة الصفر، وتبددت معها الآمال بالخروج من مرحلة الاستثناء المديدة التي تحولت بعامل الوقت إلى ما يشبه الوضع الطبيعي والدائم. فقد انسحب أعضاء القائمة العراقية احتجاجا على ما اعتبروه نقضا للعهود وغياب روح الثقة بين الكتل السياسية، ومن ذلك الالتفاف على الالتزام الذي عقد قبل انعقاد جلسة البرلمان بإعادة النظر في قانون اجتثاث البعث ورفع الحظر عن ثلاثة من قادة العراقية مشمولين بهذا القانون. ورغم أن الأمور قد عادت مجددا إلى نوع من «التهدئة» الجزئية، حيث انعقدت جلسة البرلمان فيما بعد لاستكمال انتخاب الرؤساء الثلاثة، فإن الأمور قد انعطفت مجددا نحو التأزم قبل أن ينطلق تشكيل الحكومة أصلا، وهي ما زالت تراوح مكانها إلى حد كتابة هذه السطور.

قبل أن يولد مجلس السياسات العامة، المفترض فيه أن يرسم التوجهات العامة للحكم في مجالات السياسة الداخلية والخارجية انطلقت دورة جديدة من الصراع حول الصلاحيات لم تحسم بعد. فبينما رأت «العراقية» فيه مجلسا مخولا للبت في القضايا الاستراتيجية الكبرى، وتكون قراراته ملزمة للحكومة، لم ير فيه المالكي وحلفاؤه سوى هيئة استشارية استئناسية في أحسن الحالات، بما ينبئ فعلا بأنهم يعملون على إفراغ هذا المجلس من محتواه وتحويله إلى مجرد هيئة ملحقة بالجهاز التنفيذي، والعودة بالأمور إلى ما كانت عليه قبل الانتخابات. ما تؤشر إليه المعطيات الماثلة أمامنا اليوم هو أن البلد ما زال مفتوحا على أطوار جديدة من الصراعات الساخنة والباردة من دون نهاية، وإن كانت ستأخذ هذه الصراعات عناوين كثيرة ومتنوعة في المرحلة القادمة، من تشكيل الحكومة إلى توزيع الحقائب الوزارية، إلى معركة الصلاحيات والالتزام بالقرارات وغيرها.

ومن الوهم هنا تصور أن الوفاقات السياسية الراهنة التي توصلت إليها القوائم العراقية على أنها تمثل نهاية المطاف، أو أنها تقوم على أرضية صلبة ومتماسكة تسمح باستمرارها وصمودها على الأرض، فبحكم حالة التشظي الهائلة التي تعرض لها عراق ما بعد الاحتلال، أضحى من العسير جدا بلوغ الحد الأدنى من التوافق أو الإجماع حول أي من القضايا الخلافية بين مختلف القوى السياسية، التي هي بدورها مجرد واجهات لطوائف وجماعات عرقية وليس أكثر.

ما نراه في المشهد السياسي العراقي الراهن لا يزيد على كونه تهدئة مؤقتة لسلسلة تجاذبات قادمة على أرضية بالغة التحرك والتقلب، مع صعود قوى وفاعلين «جدد» وتراجع حظوظ قوى وفاعلين سابقين.

لقد عبرت التوافقات الهشة التي توصلت إليها الكتل «السياسية» عن طبيعة التوازنات القائمة في الساحة العراقية بعد ما يزيد على سبع سنوات من احتلال البلد وتفكيك ما تبقى من مقومات الدولة وأسس الانتماء الوطني الجامع فيه. فهذه الاتفاقات عبارة عن مرآة عاكسة لأدوار القوى الدولية والإقليمية المتجاذبة في الساحة العراقية، وإن أخذت الأمور في الكثير من الأحيان عناوين محلية، واستندت إلى لاعبين عراقيين، ودعنا نقول هنا إن الأميركيين والإيرانيين والأتراك وإلى حد ما العرب، كانت لهم جميعا بصماتهم، وإن كانت بدرجات متفاوتة في المشهد السياسي العراقي الراهن.

ومن المفارقات العجيبة أن الساحة العراقية قد جمعت هذه المرة بين قوى كان يظن إلى وقت قريب أنها تخوض حرب كسر عظم لا نهاية لها. فقد التقى الأميركيون والإيرانيون على الإبقاء على نوري المالكي رئيسا للوزراء، كل لحساباته واعتباراته الخاصة به. الإيرانيون رأوا فيه أقل الخيارات سوءا بالنسبة إليهم، ما دام الرجل لم يقصر في تثبيت المواقع الشيعية في المفاصل الحيوية للدولة، فضلا عن كونه يشكل من وجهة نظرهم الخط الدفاعي الأول للحيلولة دون عودة إياد علاوي مجددا إلى تسلم موقع رئاسة الوزراء وما يعنيه ذلك من امتداد عربي وتركي من ورائه. أما الأميركيون، فرغم تململهم وضيقهم الشديد من الاتفاق الذي أبرمه المالكي مع الصدريين، فإنهم رجحوا في نهاية المطاف خيار الإبقاء عليه، أولا لتحقيق «انسحاب» تدريجي وهادئ لهم. وما يشفع للرجل عندهم أنه أعطى الطرف الأميركي ما كان يرغب فيه، بعد مصادقته على الاتفاقية الأمنية السنة الماضية، رغم اعتراضات الإيرانيين على ذلك. ثانيا رغم أن الأميركيين ليسوا متيقنين من تمام ولائه الكامل لهم، فإنهم واثقون من أنه يمثل في هذه المرحلة نقطة وفاق صامت وغير معلن بينهم وبين الإيرانيين، بما من شأنه أن يقلل من أتعابهم السياسية والأمنية في المرحلة القادمة على الأقل. وقد صارت كفة المالكي أكثر رجحانا من غيره، بعد أن مالت سورية ولاعتبارات تخص علاقتها بإيران إلى سحب دعمها عن عادل عبد المهدي ورفع الفيتو عنه. رغم ما قاله الأميركيون عن الدور النشيط الذي لعبه جو بايدن في إبرام الاتفاقات بين الكتل السياسية العراقية والخروج من حال الاستثناء التي دامت طويلا، وقد يكون شيء من ذلك صحيحا، إلا أن ما لا يمكن إخفاؤه أيضا، هو أن الأميركيين ومع تراجع نفوذهم على الأرض، قد وجدوا أنفسهم محاطين على نحو أو آخر بالنفوذ الإيراني المتعاظم، والقوى المرتبطة بها، بما جعل خياراتهم السياسية محدودة، أو هم في وضع المكبل والعاجز عن تسيير الأمور في الوجهة التي يرغبون فيها.

وعلى الجملة يمكن القول إن الطرفين التركي والعربي، قد تمكنا من تعديل المشهد السياسي العراقي نسبيا، إلا أن ذلك لم يرتق فعلا إلى تكوين معادلة جديدة تختلف نوعيا عما استقرت عليه الأمور على امتداد السنوات السبع الماضية، لقد حاول الأتراك من خلال الدور النشيط والفاعل لوزير الخارجية أحمد داود أوغلو، وعبر علاقاته الشخصية والمتينة التي نسجها مع الأكراد والعرب السنة وكذلك الأطراف العربية، وخصوصا السعودية ودول الخليج، أن يستعيد قدرا من التوازن السياسي المفقود في الساحة العراقية، بيد أن تكتل الأكراد خلف طالباني، ثم إلقاء إيران بثقلها خلف المالكي ورجالاتها قد جعل من الخيارات التركية - العربية بدورها محدودة وصعبة.

بيد أن ما نراه اليوم ليس إلا حلقة من حلقات المسلسل العراقي الطويل وليس خاتمة المطاف بأي حال من الأحوال، وعليه من الخطأ تصور أن المعادلة العراقية قد استقرت بالكامل أو أنها غير قابلة للتعديل والتغيير في هذه الوجهة أو تلك، وإن بات من المسلم به أن القوى التي استفادت من الوضع الراهن وحالة الفراغ التي أعقبت الاحتلال، تعمل على تثبيت الوضع القائم بالحيلولة دون تغيره بكل السبل والحيل.

إن عراق اليوم بقدر ما هو مفتوح على رياح وتأثيرات كثيرة متأتية من كل الاتجاهات تقريبا، وبقدر ما يجري فيه من تدافعات سياسية، وطبيعة المعادلة التي ستستقر فيه، لا بد من أن يكون لها كبير الأثر على محيطه العربي الأوسع. وعليه من القصور الاستراتيجي، ترك الساحة العراقية للآخرين من دون أن يكون للدول العربية دور ما في صياغة حاضر ومستقبل بلد مهم ومؤثر بحجم العراق. إن التصورات التي حكمت النظام السياسي العربي، خلال العشرية الأخيرة على وجه الخصوص، والتي تكاد تختصر الأمن السياسي العربي داخل الحدود الحصرية لكل دولة، ليست خاطئة فقط، بل هي أكثر من ذلك، مضرة ومدمرة للوضع العربي برمته، ولأمن الدولة العربية نفسها قبل غيرها، التي باتت هي نفسها محاصرة بكم هائل من الأزمات وعوامل الانفجار والتفكيك من حولها لا تقوى على دفعها.

يجب أن يتركز الجهد العربي في المرحلة الراهنة وفي غضون السنوات المقبلة، على مساعدة العراق والعراقيين في الخروج من مربع المحاصصة الطائفية والإثنية التي أنهكته وقضت على عرى وحدته. فاستمرار الأمور على هذا النحو يعني فيما يعنيه ارتهان البلد إلى لعبة المساومات والابتزاز المتبادل بين القوائم السياسية، التي هي عند التحقيق مجرد واجهات لطوائف وجماعات إثنية لا هم لها سوى دعم مواقعها ومصالحها الحصرية قبل أي شيء آخر. والحقيقة أنه مهما قيل عن القائمة العراقية من مؤاخذات فإنها تمثل الأفق الوحيد المتاح أمام العراقيين للتداوي من آفة الطائفية المهلكة. أهمية العراقية، وبغض النظر عن القوى الاجتماعية والسياسية التي تقف خلفها وتدعمها، أنها قد حملت مطالب وشعارات وطنية جامعة، كما أن وجود شخصية شيعية غير طائفية على رأسها جنبا إلى جنب مع وجوه وقيادات سنية يحيي بعضا من الأمل المفقود في إمكانية تعافي العراق من هذا المرض الطائفي العضال، وعودة الثقافة السياسية الوطنية الجامعة على أنقاض ثقافة الدولة الغنيمة التي تتخطفها قوى التعصب والجهالة الطائفية.

ثمة حاجة لعمل عربي مثابر لاستعادة العراق إلى حاضنته العربية وإقامة الجسور مجددا مع الجوار العربي. ليس مطلوبا اليوم الدخول في خصومة مع إيران، أو التورط في وضع السلاح العربي إلى جانب السلاح الأميركي، فمثل هذا الأمر يظل خطيئة مكلفة ومدمرة للعرب والإيرانيين على السواء، ولكن ما هو مطلوب اليوم هو احترام الهوية العربية للعراق في إطار علاقات جوار متكافئة ومتوازنة.

المبادرة السعودية وفي ظل ما تتمتع به من غطاء عربي، وخصوصا إذا قدر لها مزيد التنسيق مع تركيا، كفيلة فعلا بأن تعيد ترتيب البيت العراقي على نحو جديد، وربما تمثل بوابة الأمل الوحيدة والمتبقية باتجاه خروج العراق من أزماته الخانقة، وتجديد صلاته بمحيطه العربي المغيب.