النميمة الدولية!

TT

أمس قلنا إن الدبلوماسية الدولية باتت تعاني من أزمة ثقة، فجل الوثائق الأميركية المسربة في موقع «ويكيليكس» يشكل حرجا كبيرا للساسة حول العالم، والأهم من كل ذلك أنها تعرض الأمن القومي لعدة دول للخطر، كما أنها تصعب مهمة التواصل الدبلوماسي، والتعاون الأمني لمحاربة الإرهاب، كما أنها ستشكل عامل ذعر للقطاع الاقتصادي، خصوصا أن المعلومات تشير إلى أن موقع «ويكيليكس» ينوي نشر وثائق خاصة بأحد البنوك الأميركية.

لكن من أضرار وثائق «ويكيليكس» أيضا أنها كشفت أن المجتمع الدبلوماسي، عكس ما كان البعض يتصور، ظهر كمجتمع نميمة، أكثر من كونه مجتمع طبقة مخملية عالية التعليم، ومنمقة اللغة، وثاقبة الرؤية، بل أقرب إلى الروائيين في توصيفهم للأحداث. وبالطبع، فإن المرء ليس بالسذاجة حتى يفترض أنه ليس من عمل الدبلوماسيين رصد الوقائع، والمعلومات، أيا كانت أهميتها، وفي أي دولة، فهناك مثلا بروفايل، أو سرد شخصي، لكل زعيم أو مسؤول عالمي للتعرف على طريقة تفكيره، وأسلوبه، لكن الأمر لا يصل لجمع معلومات عن البطاقات الائتمانية لنظرائهم الدبلوماسيين مثلا، كما أن المفترض أن تكون لغة الدبلوماسيين أكثر حصافة، أو قل أكثر دبلوماسية.

صحيح أن بعض الوثائق مسلٍّ للقراءة كما قال أحد الساسة الغربيين، وأنها قد تساعد على فهم طريقة تفكير القادة، أو بعض الساسة، لكنها ليست معلومات يمكن البناء عليها. لأنها - كما قالت الخارجية السنغافورية - عملية انتقاء (خاصة عندما يتم إخراجها من سياقها) سوف تؤدي فقط لحالة من الارتباك، ولا تقدم صورة كاملة.

ومن يقرأ الرسائل يشعر وكأن بعض الدبلوماسيين يبدأ يومه بقراءة صحيفة الـ«صن» البريطانية المتخصصة في فضائح المشاهير والنميمة في المجتمع البريطاني. فبعض الوثائق تتحدث وبإسهاب لافت عن حفل زفاف لتاجر بترول في إحدى دول الغرب، وعن الراقصة وكيف تقوم بالرقص، وعن المشروبات الكحولية، والأطعمة، والملابس، وكأن القارئ أمام نميمة مقاه، وليس رسالة دبلوماسية. والأنكى من كل ذلك هو الألفاظ المستخدمة في وصف الزعماء، إذ انحطت إلى مستوى غير مألوف.

ونحن هنا لا نتحدث عن مثالية، ففي حال مقارنة الوثائق الأميركية المسربة بالوثائق التي يفرج عنها في بريطانيا كل نحو ثلاثين عاما سنجد أن البرقية البريطانية، في الغالب، لا تتجاوز الأربعة أسطر، لكنها مكتوبة بلغة موجزة، ودبلوماسية، تلخص الحالة، دون إسفاف، أو بذاءة، بينما نجد أن الوثائق الأميركية تعبر عن لغة هابطة، وتعابير لا مكان لها في القاموس الدبلوماسي.

موجز القول أن الوثائق تكشف عن أن الدبلوماسية تعاني من أزمة تردٍ في مستوى بعض الدبلوماسيين أنفسهم، ويبدو أن الدبلوماسيين لن يستمروا في الاستمتاع بالمكانة الاجتماعية التي كانوا يتبوأونها، حيث كان ينظر لهم على أنهم النخبة، أو الصفوة، ويبدو أنهم سيتحولون اليوم إلى مادة كوميدية دسمة في البرامج التلفزيونية في الغرب، والأهم من كل ذلك في أعين عامة الناس. فمن الواضح اليوم أن الدبلوماسية مثلها مثل مجالات أخرى تعاني من تدني المستوى التعليمي والثقافي.

وبحسب أحد المتخصصين - وهو مسوؤل رفيع سابق - فإن فن الدبلوماسية نفسه يعاني أصلا، واليوم جاءت الوثائق لتزيد من واقعه صعوبة. فعلا لقد اهتزت الصورة كثيرا.

[email protected]