تسريبات مثيرة لكن أين الأسرار؟

TT

أمطرنا مرة أخرى موقع «ويكيليكس» بطن من الوثائق. هذه المرة أكثر إثارة من التسريبات الماضية، فالأولى كانت بلاغات عسكرية مملة، أما الجديدة فهي برقيات وزارة الخارجية وتقاريرها الدسمة جدا. وقد أمضيت أول من أمس أقرأها، كطفل في دكان للحلوى، متعة حقيقية. لكن بعد أن أنهيت يومي، والصحيح نفدت طاقتي، تساءلت: هل قرأت سرا مهما كشفت عنه الوثائق؟ لا، ليس بعد.

لم تمر أمام عيني معلومة فاضحة كشفت عن عملية سرية، أو مؤامرة دبلوماسية، مع أنه ربما هناك الكثير منها، ولا موقف سياسي مخالف لما هو معروف مألوف لنا سلفا، لا شيء البتة. لا أحد يعمل مع إسرائيل، ولا أحد من خصوم إيران عمل لصالحها، ولا خصوم أميركا قدموا التنازلات لها. مع هذا تضمنت الوثائق الكثير من المعلومات الجديدة والمثيرة، وهناك فارق بين المعلومة الفاضحة والمعلومة الفضيحة. ففضح السر يختلف عن الفضيحة التي تسبب حرجا لأهلها، وكل الوثائق التي ظهرت حتى الآن محرجة. فالمواقف العربية ظهرت مطابقة لما نعرفه عنها من قبل، والوثائق أكدتها بصفة رسمية ليس إلا.

طبعا، لا بد أن أعترف أنه من المبكر أن أحسم رأيي ونحن في أول قطرة من الوثائق المسربة، وقد بقي بحر من آلاف المحاضر السرية والبرقيات التي لم نصل إليها، وسيستغرق شهورا نبش أكوام القش الوثائقية هذه.

وبدلا من التفتيش عن سر خطير، فإننا، معشر القراء، سنجد أن الوثائق كلها مهمة لنا، على الأقل هانحن نقرأ التاريخ قبل 30 عاما من موعده التقليدي عندما تفرج الخارجية الأميركية عن وثائقها، وهذا يعطيه معنى وقيمة سياسية مباشرة. أيضا نحن من خلالها نتعرف أكثر على لغة الحوار بلا ماكياج حتى في أصعب القضايا. عادة نرى الأبواب تغلق، ويجلس خارج المكاتب الرسمية المصورون، ولا نسمع سوى بيانات رسمية مقتضبة، أو تصريحات أميركية لا طعم ولا رائحة لها. الوثائق ستساعدنا على تعبئة الفراغات الكبيرة بالعودة إلى كل برقية وربطها بالحدث الذي عالجته. من أكوام الوثائق نستطيع أن نرسم صورة أوضح للنشاطات الدبلوماسية العربية والإقليمية والأميركية، ونتعرف عن قرب أكثر على الأشخاص الفاعلين، ونفهم أكثر طبيعة التوترات والمصالحات. فعليا، بالنسبة لي ولكل متابع، لم نعثر على مفاجآت، إنما أصبحنا بفضل التسريبات أكثر علما واقتناعا. فالذي قرأ وثيقة لقاء الرئيس السوري مع أعضاء مجلس الشيوخ شاهد الموقف السوري نفسه حول إيران والأمن والمفاوضات لكن بصياغة متكاملة. والأمر نفسه بالنسبة لمقابلة العاهل السعودي الملك عبد الله مع مساعد الرئيس الأميركي لشؤون الأمن حول موضوعات القلق من إيران وإشكالات الأمن في اليمن والاعتراف بوجود مشكلات مع الولايات المتحدة قال إنها موجودة لكنها «مشكلات لم تصل إلى العظم»، أي: قابلة للحل. وحتى في وثيقة رئيس الوزراء القطري الذي وصف السياسيين الإيرانيين بـ«الصعبين» جدا، مثلا يقحمون موضوعات لا علاقة لها أثناء مفاوضات حقل الغاز المشترك بين البلدين.

الذين لا يعملون في وزارات الخارجية يقرأون السياسة على حقيقتها لا كما تعلن عبر البيانات الرسمية أو كما يدعيها بعض الصحافيين.

[email protected]