دروس من تسريبات «ويكي»

TT

إثارة واسعة صاحبت الكشف عن الدفعة الجديدة من الوثائق الأميركية السرية عبر موقع «ويكيليكس» الإلكتروني الذي لم يمض على وجوده أكثر من ثلاث سنوات، ولم يعرف عنه الكثير من الناس شيئا إلا بعدما بدأ في كشف الوثائق الأميركية المتعلقة بالعمليات العسكرية في العراق وأفغانستان، وأخيرا بالعمل الدبلوماسي الأميركي. فالوثائق احتوت على آراء محرجة للإدارة الأميركية بشأن التقييم لشخصيات عدد من قادة دول العالم بينهم قادة دول صديقة. كما أن التسريب شمل آراء وردت خلال لقاءات قادة ومسؤولي بعض الدول مع دبلوماسيين أميركيين، إضافة إلى الكشف عن تعليمات صدرت من الخارجية الأميركية لدبلوماسيين في الخارج بالحصول على معلومات استخباراتية وشخصية عن مسؤولين أجانب أو بالتجسس على منظمات دولية.

الجدل سيستمر بلا شك بعض الوقت، خصوصا بالنظر إلى الكم الهائل من الوثائق الجديدة المسربة التي تناولت ما يزيد على ربع مليون برقية متبادلة بين 274 سفارة وبعثة دبلوماسية وقنصلية حول العالم ووزارة الخارجية الأميركية، تغطي الفترة حتى نهاية فبراير (شباط) 2010، وفيها آراء خالية من اللغة الدبلوماسية المعتادة، وكلام دار خلف الكواليس ولم يكن يتوقع خروجه إلى العلن في المستقبل القريب.

لكن هل يستحق الأمر كل هذه الضجة؟

بالتأكيد سلطت الوثائق الضوء على قضايا مهمة، وربما تسهم في تغيير بعض الممارسات، وإن كان من المستبعد أن تؤدي إلى تعديل جوهري في السياسات والأهداف الاستراتيجية الأميركية، أو حتى في العلاقات بين أميركا وحلفائها وأصدقائها الذين ورد ذكرهم في هذه الوثائق. فكل الدول تعرف أن جزءا أساسيا من عمل السفارات حول العالم هو رفع التقارير إلى وزارات الخارجية، وليس هناك دولة لا تتوقع من سفاراتها مدها بتقارير عن القضايا التي تهمها وتنعكس على مصالحها، أو عن الشخصيات التي تعنيها معرفة معلومات إضافية أو سرية عنها. وبغض النظر عن المعلومات الواردة في الوثائق، وأجواء الإثارة حول بعض ما ورد فيها، فإن الحقيقة التي لا يمكن القفز فوقها هي أن العمل الدبلوماسي لا يمكن أن يجري كله في العلن، مثلما أن العلاقات بين الدول تتطلب مناقشات وراء الأبواب المغلقة، وإلا كانت مناقشات الأصدقاء في أيدي الأعداء في عالم معقد جدا.

وعندما ينبري بعض السياسيين للهجوم على موقع «ويكيليكس» فإنهم يتناسون أن الضرر على العلاقات الدبلوماسية لا يأتي من هذا الموقع وحده، بل إن كثيرا من السياسيين الذين يغادرون مناصبهم في الغرب باتوا، في سبيل الترويج لكتب مذكراتهم التي يتقاضون عنها الملايين، ينشرون بعض ما يدور في الجلسات الخاصة مع قادة ومسؤولين، مثلما رأينا في مذكرات بوش وبلير. والتاريخ عادة لا يكتب بمثل هذه الطريقة، وأفضل من يتناوله ليس السياسيين، بل المؤرخين.

الأمر الأكيد أن نشر هذه الوثائق وقبلها الوثائق المتعلقة بحربي العراق وأفغانستان سيترك تأثيراته على الأمن المعلوماتي وكيفية التعامل مع الوثائق الإلكترونية. هذا الأمر عبر عنه كريستوفر ماير، سفير بريطانيا السابق لدى الولايات المتحدة خلال فترة توني بلير، عندما قال إن هذه الوثائق لن تمنع الدبلوماسيين من الإفصاح عن آرائهم في برقياتهم لحكوماتهم باعتبار أن هذا واجبهم، إلا أنها ستجعل الدول تتمعن بشدة في مسألة أمن وسرية المعلومات والوثائق الإلكترونية. وهذا بالضبط ما قامت به واشنطن عندما أعلنت أول من أمس أنها أصدرت تعليماتها للأجهزة الحكومية بتشديد إجراءات التعامل مع المعلومات السرية، بما في ذلك فرض قيود على المعلومات المتاحة لكل موظف بحيث لا يطلع أي شخص إلا على ما يلزمه لأداء وظيفته.

التحدي لن يكون سهلا؛ خصوصا أن الجندي الأميركي المتهم بتسريب ملايين الوثائق لموقع «ويكيليكس» كشف في دردشة إلكترونية حصلت عليها السلطات الأميركية بعد اعتقاله أن المسألة كانت في غاية السهولة بالنسبة له، مثل لعب الأطفال، على حد تعبيره. فهو كان يأتي إلى مكان عمله كمحلل معلومات ومعه قرص مدمج مسجل عليه أغنيات لأي مطرب، ثم يقوم بمسح الأغاني وتسجيل المعلومات السرية مكانها. ولتضليل أجهزة المراقبة فإنه كان يشغل عبر هاتفه الجوال أغاني للمطرب المذكور من باب التمويه وإعطاء صورة بأنه يسمع الموسيقى من القرص الذي وضعه في الكومبيوتر لنقل المعلومات إليه.

يبقى أمر أخير وهو ضرورة الحذر في التعامل مع التسريبات حتى لو كانت تتعلق بوثائق رسمية مثلما هو الحال بالنسبة لوثائق «ويكيليكس» التي لا يشكك أحد في صحتها، بما في ذلك الإدارة الأميركية المعنية مباشرة بالأمر، وإن كان هناك جدل حول كيفية وأهداف تسريبها. فعملية النشر فيها دائما انتقائية حول ما ينشر، وفي توقيت نشره، وحول تسليط الأضواء على جوانب دون أخرى. فالوثائق قد تسلط أضواء على جوانب من الصورة، إلا أن الصورة لكي تكتمل وتتضح لا بد من وضعها ضمن إطارها الأوسع بعيدا عن أجواء الإثارة الآنية.