الذين يشكلون وعينا

TT

في عددها الأخير، نشرت مجلة «فورن بوليسي» (ديسمبر 2010) قائمة لأهم مائة شخصية فكرية تمثل أهم المثقفين وصناع القرار الذين يسهمون في تشكيل الفكر العالمي. القائمة المرموقة تصدر سنويا بإشراف مؤسسة كارنيجي للسلام الأميركية، ويساهم في كتابة سيرها كتاب ومثقفون على درجة عالية من التأثير، وتحظى باهتمام شديد حول العالم. اللافت لهذا العام هو بروز شخصيات من منطقة الشرق الأوسط بوصفها الأكثر تأثيرا في مجال الأفكار الإبداعية والإنسانية. أحمد داود أوغلو وزير خارجية تركيا تصدر القائمة التي تضمنت كلا من محمد البرادعي من مصر، وسلام فياض من الضفة الغربية، وعبد الكريم سروش ومهدي كروبي من إيران، والشيخة موزة المسند من قطر. طبعا، القائمة ضمت أسماء أخرى من أصول شرق أوسطية ولكن هؤلاء يساهمون بشكل أكبر في الخطاب الثقافي الأميركي والأوروبي أكثر من كونهم أصواتا مسموعة في المنطقة.

شخصيا، أجدني أختلف مع قائمة «فورن بوليسي» لسببين: أولهما، أن بعض الأسماء الواردة هي في حقيقتها أسماء مغيبة عن واقع الشرق الأوسط، والأسماء الأخرى لها إسهام طيب ولكنه هامشي بالنسبة لصناع الخطاب الحقيقيين. شخصية مثل أحمد داود أوغلو تستحق أن تكون ضمن القائمة، لأن هذا الرجل يملك رؤية وتأثيرا واضحين في سياسة تركيا الشرق أوسطية، وقد أحاط نفسه بعدد من الشخصيات - مثل الدكتور إبراهيم كالن - الذين يعتبرون أذكياء ومجددين فيما يتعلق بانخراط تركيا في ملفات المنطقة. أيضا، الشيخة موزة المسند هي واحدة من أبرز الشخصيات الخليجية المميزة في دعم التعليم في المنطقة، ولها فضل كبير في تحريك دفة الحوار ومشاريع التنوير الثقافي.

بيد أن شخصية مثل محمد البرادعي في مصر يمكن القول إنها شخصية فشلت في تحريك السياسة المصرية لأنها لم تكن تملك فكرا سياسيا واضحا، ولأنها أرادت أن تغير الدستور المصري ليتواءم مع تطلعاتها دون أن تمتلك الحصافة السياسية اللازمة لبناء بديل سياسي يواجه المؤسسة المصرية الحاكمة. شخصيات مثل عبد الكريم سروش ومهدي كروبي مغيبة في إيران، حيث سروش لاجئ يدرس في الغرب ولا يسمح بطباعة كتبه في إيران، بينما مهدي كروبي - صقر المحافظين بالأمس - يقيم في منزله تحت الإقامة الجبرية. لقد قال كروبي حين تولى منصب المتحدث باسم البرلمان إن «الخلافات بين الجمهورية الإسلامية والسعودية متجذرة، وإنها متأصلة في الخلاف بين الإسلام الأميركي والإسلام الأصيل الذي ينتمي للنبي.. ليس هناك حيز للمساومة في هذا الخلاف». بعد سنوات قلائل تراجع كروبي معتبرا السعودية واحدة من أهم علاقات طهران الاستراتيجية، وأثنى بشكل بارز في حوار مع قناة «العربية» عشية انتخابات 2009 على العلاقات التي ربطت بينه وبين رئيس مجلس الشورى السعودي الراحل محمد بن جبير.

لا تستطيع أن تلوم مجلة مثل «فورن بوليسي» لإشادتها ببعض الأسماء، ولكن هاته شخصيات ملهمة - ولكن محدودة التأثير - في المنطقة، قد يعجب بها بعض الغربيين والشرقيين لنبل مساعيها، ولكنها لا تملك ذات التأثير الذي يتمتع به دعاة وعلماء دينيون أكثر انغلاقا. في السبعينات، والثمانينات كان يصعب على بعض شخصيات الإسلام السياسي اختراق وسائل الإعلام الحكومية، ولهذا كان سلاح الخميني ومن بعده أبرز دعاة الإسلام السياسي هو شريط الكاسيت الذي يصل لملايين البيوت، وقد استطاعوا عبره تحريك الشارع، بل وإعادة تشكيل وعي المتلقي ضد المؤسسة السياسية التقليدية، ولكنها اليوم - وبفضل من ثورة وسائل الإعلام - أصبحت أكثر تأثيرا من أي وقت مضى. شخصية مثل الشيخ يوسف القرضاوي كانت محصورة في محيط الحركة الإسلامية حتى نهاية الثمانينات، ولكنها استطاعت من خلال وسيلة كقناة «الجزيرة» الوصول إلى ملايين البيوت في المنطقة. لا يزال كثيرون في السعودية – مثلا - يتذكرون الإصدارات المسجلة التي كان يصدرها دعاة مثل سلمان العودة، وسفر الحوالي، وناصر العمر، وعائض القرني، والتي كانت تكتسح الساحة الاجتماعية في السعودية معبرة عن آرائها المتشددة ضد الدولة والمجتمع. صحيح، أن بعض هؤلاء قد أصبحوا اليوم أكثر اعتدالا مما كانوا عليه في السابق، ولكن الملاحظ هنا هو أنهم باتوا يتمتعون بجمهور أكبر وأوسع مما كانوا يصلون إليه عبر تسجيلاتهم.

إذا أردت اليوم أن تذكر أسماء أولئك المؤثرين على الساحة الفكرية، فإنك ستجد أنهم في غالبيتهم من الدعاة الممثلين للإسلام السياسي، ولذلك أسباب عديدة أبرزها تراجع الفكر التنويري المدني وانتشار الأمية. في ثمانينات القرن الماضي، كانت شخصيات مثل عبد الحميد كشك في مصر، أو أحمد القطان في الكويت، أو عبد المجيد الزنداني في اليمن هي الفاعلة تحت السطح في إعادة تشكيل الوعي لدى الأكثرية من أبناء الطبقة الفقيرة الذين تحصلوا للتو على تعليم جامعي لم يتوفر لآبائهم. ولهذا، فإن أيديولوجيا الإسلام السياسي وفرت الفرصة لهؤلاء نحو اعتلاء المشهد السياسي عبر استخدام الغطاء الديني.

ما نود قوله هو أن الفاعلين في تشكيل الوعي في منطقتنا، ليسوا تلك النماذج الجميلة التي تسعى للتطوير والانفتاح على العالم الغربي، بل هناك فاعلون على السطح وآخرون تحت الأرض يقومون بأضعاف ما قد تتصور التغطيات الغربية في تشكيل الوعي الديني، والسياسي، والاجتماعي. على السطح هناك دعاة مثل يوسف القرضاوي في قطر، وسلمان العودة في الرياض، وحسن الصفار في القطيف، وعمرو خالد في مصر، ومصباح يزدي في إيران. ولكن هناك فوق الأرض وتحتها شيوخ ودعاة وقادة متشددون يشكلون الرأي العام، تأمل في شخصيات مثل حسن نصر الله في لبنان، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري والملا عمر في أفغانستان، والعولقي في اليمن، وعبد الله النفيسي في الكويت، ودعاة سعوديون أقل شأنا ولكن أكثر تطرفا، هؤلاء كلهم أكثر تأثيرا وتحريكا للساحة من عشرات السياسيين والكتاب الذين يكتبون في الساحة الإعلامية. الوضع تماما مثل أمواج البحر السطحية، والعميقة، بحيث أن المراقب الخارجي لا يرى إلا الشخصيات التي على السطح، ولكنه لا يدرك أن تحت تلك الأمواج السطحية، هناك أمواجا أكثر شدة تمور في الأسفل تشكل الرأي العام، وفوق ذلك الوعي بالعالم.