كهفان

TT

يتخيل أفلاطون في «الجمهورية» المخلوقات البشرية وقد ربطت بسلاسل وأبقيت في كهف تحت الأرض، لا ترى شيئا سوى الظلام. نظراتها مشدودة إلى جدار الكهف الذي تتراقص عليه ظلال متسربة من العالم الذي فوق. يتأمل الرجال هذه الظلال المتكسرة ويخيل إليهم أنها حقائق. ويقول أفلاطون إنه إذا ما كتب لأحد هؤلاء السجناء الحرية والخروج إلى الضوء فسوف يشعر بألم شديد. سوف يعميه النور لدرجة يتوق معها إلى الظلام المألوف من جديد. ولكن شيئا فشيئا يعتاد حياة الضوء أيضا ويزول من فكره خداع الظلال المتكسرة، ليبدأ في مواجهة هول الحقائق وفوضاها. لا يعود العالم كله عنده مجرد ظلال متسربة من العالم الوسيع إلى قاع الكهف. وعندما يرجع إلى الكهف يكتشف أنه فقد القدرة على الرؤية في العتم مثل أولئك الذين لم يتعرضوا لتجربة النور. ويسخر منه هؤلاء. ويقسمون أنهم لن يعرضوا أنفسهم لتلك التجربة لكي لا يصابوا بالعمى!

كان أفلاطون يخشى الضعف البشري. ميل الإنسان إلى سلامة الظلام، وارتياحه إلى وهم الظلال المتسربة. الكهف خدر ممتع. لا ضوء، إذن لا حقائق. لا حياة تملؤها التجارب وتواجهها الصعاب وتتغير فيها معدلات السعادة والشقاء. لا ضوء، إذن لا عمل ولا سعي ولا جهد ولا طموحات ولا أحلام. فقط الجدار المقابل وما يمكن أن يتسرب إليه من أخيلة وأظلة وترائيات مخادعة. الطبع البشري في ضعفه الموصوف يميل عما يبهر الأبصار ويحرك الفكر ويلقي المسؤوليات على الأكتاف. لذلك يفضل خدر الظلام ويكتفي بما يتسرب من بين الشقوق الصغيرة من أطراف انعكاسات هزيلة.

منذ التاريخ، هناك دعوة عامة إلى الكهوف أو إلى عدم مغادرتها. يسمى ذلك في العصور الحديثة غسل الأدمغة بحيث يمكن تعبئتها بعتم بديل. طوال مائة عام حفرت الشيوعية كهفا تحت الأرض وسورت بلدانها بالأشرطة وأغلقت النوافذ على الشعوب وأطفأت الأنوار وأقنعت الجماهير بأن ثمة رجلا واحدا يفكر عنها ويصوغ لها الرؤية ويرسم لها الدروب.

كان الرفيق «سوسلوف» هو منظر الحزب الشيوعي السوفياتي، وكان على نحو 500 مليون إنسان في بلدان الكتلة الاشتراكية أن يفكروا مثله وأن ينظروا إلى متغيرات العالم كما ينظر هو إليها وأن يقفوا في طوابير الخبز والملفوف لأنه لا يزال يفكر في طريقة أخرى لحل قضايا الاقتصاد الكوني. وفي المقابل، في العالم الرأسمالي، كان مشعوذو الدعايات يلغون طاقة الناس على التفكير وكانوا يفرضون الحل عن طريق شخصية ساذجة تدعى سارة بيلين، أو يملأون أدمغة الناس بأخبار ديانا سبنسر وأحذيتها الرياضية، ولم يعد يتسرب إلى الكهف سوى ظلال الترهات.