عصر «ويكيليكس»

TT

يبدو أننا دخلنا رسميا في عصر«ويكيليكس»..

هل هذا الموقع هو أهم إنجازات حرية التعبير أم هو أخطر تجليات الصحافة بصيغتها الـ«ما بعد حداثية»؟!

بدا لي وصف أحد الصحافيين لمؤسس الموقع جوليان أسانج بأنه «إرهابي معلوماتي» وصفا يعكس تماما الإشكالية التي يثيرها الرجل والوثائق التي يقذفها في وجوهنا من حين لآخر.

نعم، إنها معلومات تلك التي كشفها لنا موقع «ويكيليكس»، لكنها ليست مفاجأة، وحتما يحار المرء إزاءها، إذ كيف يمكن لمثل هذه المعلومات أن توظف في سبيل المزيد من الشفافية؛ علما بأن الحكومات التي أقلقتها تسريبات أسانج ستباشر من الآن عملها لتضمن أن لا يتسرب المزيد من الوثائق والأسرار المحرجة...؟

لا شك أن الأسئلة الكثيرة بشأن تسريبات «ويكيليكس» تستبطن الكثير من الحيرة إزاء مدى صوابية هذا الكشف وأخلاقيته، ودعنا هنا من قلق الحكومات؛ فليس هذا ميزان التقدير المرجو.

من جهة، ثبتت الوثائق المنشورة معلومات كان سبق تداولها لجهة التباين ما بين المواقف المعلنة في السياسات الدولية والمواقف الحقيقية التي تكاد أحيانا تلامس في تفاصيلها الحوارات التي يتبادلها العوام من الناس. ومن جهة ثانية يكرس قسم كبير من هذه التسريبات صفة قديمة لمبدأ الثرثرة أو النميمة، ولكن على مستوى أممي واستخباراتي، وهو ما أضفى المزيد من الإثارة عليها دون أن يكون للمادة المسربة بهذا السياق مضمون صحافي جدي..

لكننا هنا حيال وثائق وليست أخبارا شفهية من نوع تلك التي تحملها الثرثرة وهي بهذا المعنى شيء من القرصنة. لكن إدانة فعلة أسانج قد تستبطن أيضا إدانة لكشف معلومات من المفترض أن كشفها من حق جمهور معني بالأحداث وبكشف كذب الحكومات ونفاقها أيضا، وهو ما حققه كشف الوثائق. فالعمل المدان أدى وظيفة غير مدانة؛ وهذا ما يدفعنا إلى التفكير في أسباب وضعنا في هذا المأزق فهل علينا أن ندين أم علينا كيل المديح وانتظار ما سيجود علينا به «ويكيليكس» من وثائق جديدة. ويبدو أن أحد أسباب هذا المأزق يتمثل قبل «ويكيليكس» في أن ثمة من حجب هذه المعلومات عنا إلى أن جاء قرصان ماهر وكشفها..

لكننا لن نسقط في فخ مديح «ويكيليكس»؛ إذ إن فعل القرصنة حرم فعل الكشف من وظيفته وهي الاستفادة مما كشف في منع تكراره أو في محاسبة مرتكبه، وهو أمر لم يتحقق.

ما قامت به «ويكيليكس» هو نقل ما كنا نعرفه من الصعيد الشفهي إلى الصعيد التوثيقي، وهو بهذا المعنى لم يقدم الكثير باستثناء تثبيت ما كنا نعرف وتوثيقه. لكن السؤال يبقى حول مدى إمكان نسبة فعلة «ويكيليكس» إلى العمل الصحافي والاستقصائي تحديدا. فجهد أسانج اقتصر على تجميع هذه الوثائق ورميها في وجوهنا من دون إعادة تأليف للواقعة في منطقها الزمني والاجتماعي والجغرافي؛ على ما تدأب الصحافة الاستقصائية فعله.

diana@ asharqalawsat.com