سعودة حلقات تحفيظ القرآن وتهمة التغريب

TT

ما حصل مؤخرا من تنفيذ أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل لتوجيه وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز، الذي صدر عام 2004، بسعودة حلقات تحفيظ القرآن الكريم في كل مناطق المملكة، جاء ضمن الكثير من الأمور التنظيمية التي كانت منطقة مكة بحاجة إليها فيما يتعلق بوجود الأجنبي، خاصة بصورة غير نظامية، إلا أن هذا الأمر أثار حفيظة البعض الذين ربما تعجلوا قبل أن يعرفوا آلية التنفيذ.

الغاضبون من سعودة حلقات تحفيظ القرآن الكريم لم يقنعوا أحدا بحجتهم التي تقول إن تحفيظ القرآن مهمة دينية لا علاقة لها بالجنسية؛ كون القرآن كتابا لعموم المسلمين، فهذا كلام إنشائي لا قيمة له أمام أرقام العاطلين عن العمل من السعوديين، وأرقام العاملين الأجانب في المملكة. اعتراضهم على السعودة دوافعه ليست مالية مثلما كان اعتراض أصحاب مدارس التعليم العام الأهلية أو شركات الليموزين الذين دفعوا فرق الراتب لصالح الموظف السعودي من جيوبهم، بل اعتبر المحتجون أن سعودة حلقات تحفيظ القرآن فيها تعطيل لعمل هذه المدارس وتضييق عليها استجابة لمحاولات التغريب.

تهمة كبيرة.. وكذبة كبيرة

لا أعرف أين يعيش هؤلاء، هم يتحدثون عن دولة فيها أكثر من 24 ألف حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، رقم هائل لم يتخيله أحد على الرغم من الدور المعروف للمملكة فيما يخص الشأن الإسلامي سواء داخل المملكة أو في أدغال أفريقيا وأعالي جبال التيبت مرورا بأميركا وأوروبا.

الرقم الكبير الآخر الذي تكشف هو وجود 20 ألف مدرس أجنبي للقرآن الكريم في هذه المدارس في بلد يعاني أبناؤه البطالة. وفي بلد هو مهبط لكتاب الله لا يمكن تبرير استقدام مدرسيه في وجود كل هذه المعاهد والكليات التي تخرج سنويا المئات من متخصصي العلوم الشرعية ليقعدوا مع القاعدين العاطلين.

إن المتابع لهذه المواقف لا يستطيع إلا أن يشعر بأن أصحابها في واد بعيد عن وادي الهم الوطني الذي يسكن فيه أهم وأخطر الملفات الداخلية: الأمن والبطالة. تحديات كبيرة تواجهها الدولة بكل أجهزتها في التعامل مع هذين الملفين، في وقت تسجل فيه مثل هذه الأصوات احتجاجات على تنظيم عمل الأنشطة الدعوية، أو رقابة عمل الجمعيات الخيرية، ومتابعة حساباتها المالية وغلق ما يثبت تجاوزها، أو تقنين عمل القضاة ومساءلة كتاب العدل، والآن سعودة مدارس تحفيظ القرآن الكريم، وكلها إجراءات من صميم عمل الحكومة التي من واجبها رعاية المصالح العليا للدولة من دون أن تضطر لكشف تحرياتها لإقناع أحد.

مدارس تحفيظ القرآن الكريم جهة عمل ينطبق عليها ما على سائر جهات العمل الأخرى من أنظمة الدولة ولوائحها، والتعامل معها يكون وفق هذا النظام وليس وفقا للأهواء الشخصية، وإن كانت إعادة تنظيم العمل داخل هذه المدارس تسمى تغريبا فماذا يمكن أن تسمى الدورة التدريبية التي يحضرها الآن قضاة سعوديون في لوكسمبورغ من ضمنها لقاءات مع قضاة محكمة العدل في الاتحاد الأوروبي، الذين يرون أن القصاص قتلا من القاتل فيه نظر، وأن جلد الزاني يتنافى مع حقوق الإنسان؟

مثل هذه الأطروحات المتطرفة لا تؤكد إلا انغلاق أصحابها، ووضعهم موضع استفهام، ولن أقول موضع خطر؛ لأن من حسن الحظ أن أصواتهم ضعيفة، فهم ليسوا الشيوعيين الذين أغرق طوفانهم العالم، وظلت السعودية معصومة عنه في جبل، ولن يستطيعوا تحويل منهج التعامل مع الشأن الإسلامي في المملكة إلى منهج رجال الكنيسة في عصور الظلام، الذين غالوا في تقديس أمورهم الدينية حتى سجد الناس لهم.

السعودية في تاريخها الحديث مرت بأسوأ من هذه الأطروحات وأشد من هذه الاتهامات، أمر متوقع لدولة مثل السعودية، هي مركز للعالم الإسلامي، ومن أكبر القوى الاقتصادية في العالم. كل الصيحات الفكرية التي عبرت رياحها حدود المملكة، من الشيوعية إلى القومية والإسلاموية الأصولية، لم تستطع أن تغير من المبادئ التي تأسست عليها الدولة السعودية، على الرغم مما تسلحت به هذه الأفكار من قوة اقتصادية وعسكرية وشعبوية هائلة. وتمكن ملاحظة هذه القدرة العالية من الثبات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) التي أظهرت تورط 15 سعوديا فيها؛ حيث وضعت هذه الحادثة السعودية في واقع جديد، ومواجهة مع فريقين أحدهما هو الإرهاب، بأدواته التحريضية واللوجيستية، والآخر هو من أرجع سبب هذا العمل الإرهابي إلى منهج الدولة السلفي.

لم يفلح الطرفان في فرض رؤية جديدة على الثوابت الوطنية، هذا ما يمكن أن نراه اليوم بعد 10 سنوات من اتهام المملكة بالإرهاب؛ فالسعودية هي الدولة الأكثر فاعلية في محاربته، والأكثر ثباتا على مبادئها الوطنية، وكل الإصلاحات والتنظيمات ومظاهر التمدن التي فرضتها المرحلة الزمنية بتغيراتها الاجتماعية والاقتصادية المحلية والعالمية، لم تمس أي قيمة دينية، بل عززت الالتحام حولها.

إن المعركة الحقيقية للسعودية لم ولن تكون محاربة التطرف الإسلامي فقط، بل المحافظة على موقعها في خانة الاعتدال الديني والفكري والسياسي.

أما ما نقرأه ونسمعه من أطروحات هشة للمتطرفين تمتلئ بها الفضائيات ومواقع الإنترنت على اختلاف مشاربهم، فهي مثل العطاس، أعني أنها دليل عافية، وليست علة.

* جامعة الملك سعود

[email protected]