الدبلوماسية «التابلويدية»

TT

من حق أي دولة أن تفتح قنوات دبلوماسية سرية مع دول أو مسؤولين أجانب... شريطة أن تبقى مؤتمنة على سريتها... حفاظا على سلامة علاقتها مع مصادر المعلومات السرية إن لم يكن على السلامة الشخصية لهذه «المصادر».

ولكن إذا كانت واشنطن تعتبر نشر الدفعة الأولى (250 وثيقة) من أصل أكثر من 250 ألف برقية دبلوماسية «فضيحة»، فالفضيحة لا تعود إلى ما تضمنته من «معلومات خاصة» - أكثرها معروف ومتداول - ولا إلى عجز إدارة الدولة الأعظم في العالم عن ضمان سرية وثائقها الحساسة، بقدر ما تعود إلى الأسلوب «الاستخباراتي» في عمل الدبلوماسية الأميركية، وإلى الأسلوب «التابلويدي» - نسبة إلى صحف الإثارة البريطانية (التابلويد) - وأحيانا الكاريكاتيري في تقييم الدبلوماسيين الأميركيين لقادة وزعماء الدول الأخرى.

ما عدا ذلك، لا جديد في الوثائق التي كشفها موقع «ويكيليكس» على سبيل المثال لا الحصر، لا جديد عمليا في الحديث عن أن الكثير من الدول العربية متوجس من الأبعاد الاستراتيجية والدبلوماسية لتحول إيران إلى دولة نووية، ولا جديد في «الكشف» عن أن إيران استخدمت الهلال الأحمر الإيراني لتهريب عملاء وأسلحة إلى لبنان خلال الحرب بين إسرائيل وحزب الله عام 2006 ولا جديد أيضا في الإعلان عن أن عدة حكومات في الشرق الأوسط حذرت من أنها ستطور أسلحة نووية أو تدعو قوى خارجية لنشر أسلحة نووية على أراضيها إذا ما حصلت إيران على السلاح النووي، ولا جديد أيضا في «الكشف» عن أن حركة حماس الفلسطينية - التي تعتبرها واشنطن حركة إرهابية - تحصل على «مساهمات رسمية وخاصة» من عدد من الدول العربية، ولا في الإشارة إلى أن رئيس الحكومة البريطانية، ديفيد كاميرون، يريد سحب آخر جندي بريطاني من أفغانستان قبل حلول موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة عام 2015.

في هذا السياق، معظم ما تضمنته المستندات التي نشرت حتى الآن، «أسرار رائجة» في الشرق الأوسط ومعروفة في العواصم الغربية - سواء كتحاليل إخبارية أو كتسريبات شبه رسمية - استمدت أهميتها من تأكيد واشنطن موثوقيتها من خلال رد فعلها المحرج على عملية النشر.

الفضيحة الأبرز التي تواجهها واشنطن من نشر هذه الوثائق ما تكشفه اعتماد سفاراتها في الخارج على الروايات الاستخباراتية أكثر من اعتمادها على القنوات الدبلوماسية العادية في جمع معلوماتها الخارجية... ربما لأن للخبر «السري» والاستخباراتي جاذبية تفتقد إليها المعلومة العادية.

أما الفضيحة الثانية، فهي ظاهرة المقاربة التابلويدية، والكاريكاتيرية أحيانا، المعتمدة في تقييم الدبلوماسيين الأميركيين للقيادات الدولية الأجنبية التي تعكس نظرة فوقية أميركية على العالم الآخر.

على سبيل المثال أيضا، وصفت إحدى البرقيات الدبلوماسية الأميركية الرئيس الروسي، ميدفيديف، بأنه يلعب دور «روبين» تجاه الـ«باتمان» بوتين، وأخرى نعتت دكتاتور كوريا الشمالية، كيم جونغ إيل، بـ«العجوز المترهل»، وثالثة لخصت شخصية الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بقولها إنه «سريع التأثر بالانتقاد ومستبد»، فيما وصفت برقية رابعة رئيس الحكومة الإيطالية، سيلفيو برلسكوني، «بالعقيم والمغرور»، وأخرى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بأنه سياسي «لبق»... ولكنه «لا يفي أبدا بوعوده»، أي أنه، بتعبير مهذب، مخاتل.

ويبدو أن إظهار «هوية نفسية» للقادة الدوليين جزء أساسي من عمل السفارات الأميركية في الخارج بدليل كشف موقع «ويكيليكس» عن طلب أميركي تلقته السلطات البريطانية لتزويدها بمعلومات «خاصة وشخصية» عن الكثير من السياسيين البريطانيين.

وثائق «ويكيليكس» قد تشكل فضيحة للدبلوماسية الأميركية... ولكنها، قبل ذلك، عبرة لمن يعتبر من القادة والسياسيين الأجانب، ودعوة واضحة لاعتماد الشفافية في أي اتصال مستقبلي لهم مع «قنوات» الدبلوماسية الأميركية.