قاضوا «ويكيليكس».. ثم أصلحوا قوانين التجسس الأميركية

TT

ينتهك نشر جوليان أسانج المتهور والمتغطرس على موقع «ويكيليكس» لنحو 250 ألفا من البرقيات الدبلوماسية الأميركية الحساسة القانون الأميركي، ويجب أن يعاقب على ذلك، ولكن هذه الخطوة يجب أن تحفز المسؤولين الحكوميين أيضا لمعالجة مشكلة التسريبات ودراسة ما يمكن أن يفعلوه إزاء هذه المشكلة بشكل أكثر عمقا. وقد نشر أسانج بالفعل آلاف الوثائق التي تتناول بالتفصيل عمليات عسكرية في العراق وأفغانستان. وعندما علم مسؤولون أميركيون أنه كان يخطط لنشر هذه البرقيات، كتبوا إليه يطالبونه بإعادة الوثائق و«التوقف عن نشرها» لأن القيام بذلك سوف ينتهك القانون الأميركي ويعرض حياة «أناس لا حصر لهم» للمخاطر، وسوف يؤدي بخلاف ذلك إلى إلحاق ضرر بالغ بالولايات المتحدة.

ورفض أسانج بصلابةٍ هذه المخاوف، واصفا إياها بأنها «وهمية تماما». ولكن لا يمكن لأي أميركي عاقل - حتى وإن كان ممن يعارض سياسات هذه الإدارة أو الإدارات السابقة - أن يقرأ هذه الوثائق ويشك في أن الكشف عنها سوف يلحق ضررا بالغا. إذن ما الذي يجب أن نفعله الآن؟

أولا، يجب أن نسعى إلى مقاضاة أسانج وموقع «ويكيليكس»، وليس هناك أدنى شك في أن أفعاله تنتهك المادة رقم 18 من دستور الولايات المتحدة، بند رقم 793 (هـ)، التي تحظر على أي فرد، يمتلك معلومة دون ترخيص تتعلق بالدفاع الوطني يمكن أن تلحق ضررا بالولايات المتحدة أو تساعد عدوّا، توصيل هذه المعلومات عمدا إلى شخص ليس مرخصا له الحصول عليها أو الاحتفاظ بهذه المعلومات عن عمد، بعد مطالبة الحكومة الأميركية بضرورة إعادتها. ولعدة سنوات، دخل المحامون في جدل حول ما إذا كان يمكن استخدام هذا النص لمقاضاة صحيفة تنشر معلومات سرية، ولم يتم مقاضاة أي صحافي شرعي أو صحيفة مطلقا بموجب هذه المادة. ولكن من الصعب المجادلة، اعتمادا على الحقائق المتاحة، بأن أسانج يستحق نفس المعاملة كمؤسسة إخبارية مسؤولة تنظر بعناية إلى آراء الحكومة قبل تقرير ما هي المعلومات السرية التي يمكن نشرها، إن وجدت. ويحمي الدستور وسائل الإعلام، ولكنه لا يحمي بالتأكيد الأشخاص الذين يلحقون أضرارا بالغة بالغير.

وثانيا، يجب أن ندرس كيف تمكّن أحد الأشخاص من تقديم الوثائق لموقع «ويكيليكس» في المقام الأول ونتأكد من عدم حدوث هذا الأمر مجددا. وتشير التقارير إلى حبس جندي في الجيش الأميركي واتهامه بالمسؤولية عن تسريب هذه الوثائق.

وخلال يوم الأحد الماضي أعلن البنتاغون عن خطوات معقولة لتصحيح هذه الأوضاع، ولكن بعد فوات الأوان. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، بذلت جهود كبيرة من أجل تبادل المعلومات على نحو أكثر اتساعا لكي يتمكن العملاء الحكوميون من «وضع النقاط على الحروف». وعند تشديد النظام للحيلولة دون حدوث المزيد من التسريبات، لا بد أن يتم اتخاذ إجراءات احتياطية كبيرة لمنع إعادة إنشاء «منافذ» للمعلومات لا يمكن الوصول إليها من قبل الأشخاص الذين يحتاجون إلى هذه المعلومات. وتتوافر التكنولوجيا التي يمكن أن تفعّل نظام توزيع يعزز تبادل المعلومات، ولكنه يمتلك أيضا وسائل تحكّم مثل وظائف الإجازة والمراجعة التي توفر مساءلة وأمنا. ولا بد أن تعطي الإدارة الأميركية والكونغرس هذه الخطوة أولوية.

وثالثا، يجب أن نحدث قوانين التجسس، وهي القوانين الذي يتم مقاضاة التسريبات بمقتضاها. وكان السيناتور بن كاردين (عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي عن ولاية ميريلاند) والسيناتور جون كيل (عضو مجلس الشيوخ الجمهوري عن ولاية أريزونا) قد شرعا بشكل صحيح في دراسة هذه التشريعات. ويرجع تاريخ إصدار قوانين التجسس إلى الحرب العالمية الأولى، ورغم أن هذه القوانين خدمتنا بشكل جيد، فإن قضية «ويكيليكس» تثير سؤالا خطيرا حول ما إذا كانت هذه القوانين كافية للتعامل مع العالم الرقمي الحديث.

ورابعا، لا بد أن يُظهِر الأشخاص المخول لهم الوصول إلى معلومات سرية انضباطا أكبر في طريقة التعامل معها. ويكون قدر كبير جدا من المعلومات سرية أو فائقة السرية. وفي كثير من الأحيان يسرب المسؤولون معلومات سرية بصورة مناسبة. وأحيانا تكون هذه المعلومات «تسريبات مرخصة» من قبل مسؤول بارز يتصرف في إطار سلطته لتقديم معلومات سرية إلى الصحافة، ولكن دون نسبتها إلى شخص معين أو رفع السرية بشكل رسمي عن المعلومات. وقد يكون الدافع هو الرغبة في الحصول على الثناء أو المديح، على سبيل المثال عبر إخبار العامة عن تغيير السياسة.

ولكن غالبا ما تكون التسريبات غير مرخصة، وتكون مجرد جهود للتأثير على السياسة أو التلاعب بالرأي العام. وأحيانا تكون مجرد ممارسة مغرورة من قبل مسؤول مضلل، ونادرا ما تقدم التسريبات بواسطة شخص يسعى إلى الكشف عن مخالفات. وبغض النظر عن الدافع فإن أحد آثار التسريبات، وخصوصا «التسريبات المرخصة»، هو تقويض نظام السرية. ولا يمكن لرئيس أو أمين مجلس وزاري أن يشتكي بشكل واضح من الضرر الذي حدث بفعل التسريبات غير المرخصة يوم الاثنين الماضي، وأن يكشف يوم الثلاثاء عن معلومات سرية للصحافة «دون الكشف عن هوية المصدر»، وأن يتوقع من النظام الحفاظ على سلامته.

وأنا لا أريد القول، بالطبع، إن التسريبات التي يقدمها مسؤولون في واشنطن ضمن إطار العملية السياسية متماثلة بشكل بعيد مع خيانة أسانج، ولكن قضية «ويكيليكس» يجب أن تجعلهم يعيدون التفكير في كيفية إضفاء صفة السرية على المعلومات، ومع من يجب تبادل هذه المعلومات، وما هي نتائج تسريباتهم الخاصة، على الرغم من نيتها الحسنة.

* مستشار سابق لـ«سي آي أيه»

من 1995 إلى 1996

* خدمة «واشنطن بوست»