وتأبط ذراعا من خيال ثم ناااام!

TT

غمس قطعة من خبزه الحاف في إناء خياله الثري، واستلقى بعدها على الأرض، تاركا فسحة بجواره تكفي لمؤانسة حلم عذب، ثم نااااام، لم يتأخر حلمه في القدوم، فسرعان ما وجد نفسه يتسكع أمام فاترينات أنيقة، تضم عطورا، ووردا، ومستحضرات تجميل، استوقفته واجهة تطل منها أثواب عرس نسائية ملونة، سمح لحلمه أن يملأ أحدها، وتأبط ذراعا، ومضى.

واصل تسكعه على كورنيش المدينة، متأبطا ذراع حلمه، لم يكن وحده على الشاطئ، فالرصيف العريض يزدحم بالمارة، وبائعي غزل البنات، وقف يتأمل المراكب الصغيرة العابرة، وقد انطلقت منها ضحكات، وموسيقى، وأفراح صغيرة. وعاشقا مفارقا حينما مر من أمامه شد زمام المجداف قليلا، وأطلق عقيرته بالغناء:

«أيّوه.. قلبي عليك التاع

ما يحتمل غيبتك ليلة»

لوح له بكفه مواسيا، فرسم البحار بالمجداف مشاعر امتنانه، ومضى.

على مركب آخر لمح ما يشبه تناثر شعر غجري تداخل مع عتمة الليل، فاكتفى بنفحة عطر هبت من هناك، مرتضيا نصيبه من الجمال، وقد حجبت «الظلمة» عنه ركاب المركب الثالث، لعله توهم أنهن كن أربعا، وخامسهن شهريار!

في الطريق إلى حيه العتيق كان لم يزل متأبطا ذراعا من خيال، و«رواشن» البيوت - عرائس الفرح - تساقط قطرات من الندى على الأزقة الناحلة، وأمام نافذة مغلقة تذكر كيف كانت إذا ما انطفأ النهار تمطر شموسا وأقمارا، تبدد عتمة الدروب.

وحينما تثاءبت ستارة النافذة في غرفته الصغيرة تبين الفجر ناحلا خلف ثقوب «الروشن»، ولاح الشاطئ مزركشا بالمراكب والنوارس وتباشير الصباح، فراح يتأمل كفه الخالية، وكان يهم بالعودة إلى فراشه كي يكمل حلمه لولا أن تذكر قول بورخيس: «بينما ننام هنا نكون مستيقظين في مكان آخر، كل شخص شخصان»، فشد رحاله صوب الـ«أنا» الأخرى، وكانت المسافة بينه وبين تلك الـ«أنا» بضعة أحلام، وعشرات السنين.

[email protected]