«العالم العُريان».. بقوة سلطان العلم.. واستحقاق الشفافية

TT

«سلطان العلم» بدّل أوضاع البشرية تبديلا، إذ قضى على أوضاع قديمة ذات حجب، وأنشأ عوالم جديدة - ذات نوافذ - منسوجة من «المعارف» المفتوحة السقوف والآفاق بلا نهاية، وفي طليعتها «تكنولوجيا المعلومات».. هذا هو أول وأعظم درس نتعلمه من زلزال نشر مئات الألوف من الوثائق السرية التي بثها موقع «ويكيليكس».. وبالمقارنة تتضح وتسفر المسافات الهائلة بين عصرين اثنين - على سبيل المثال -.

قبل نحو 90 عاما - تقريبا - دخلت الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الأولى، وحشدت لها 4 ملايين و734 ألفا من رجالها، قتل منهم 115 ألفا وأصيب بجروح وعاهات دائمة مائتا ألف رجل.. فكم عدد الذين عرفوا أو يعرفون أن أميركا قد دخلت الحرب على أساس «كذبة ضخمة»: كذبة أن الألمان أغرقوا السفينة الأميركية «ساسكس» في القناة الإنجليزية؟.. عدد الذين عرفوا ذلك - في ذلك الإبّان ومن بعد - قليل، بل أقل من القليل، ذلك أن عددا قليلا جدا من الناس قد اطلعوا على الكتاب الوثيقة النادر الذي كشف الكذبة ووثقها توثيقا لا مرد له، أي كتاب «كيف يصنع الدبلوماسيون الحرب» الذي ألفه النائب البريطاني فرانسيس نيلسون. وقد تعرض لحملة ضارية - بسبب كتابه هذا: اضطرته للتخلي عن مقعده في البرلمان البريطاني «!!!!».. يقول نيلسون في كتابه هذا: «في أميركا كان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون يبحث بالليل والنهار عن ذريعة ما تبرر دخول بلاده الحرب فوجدها أخيرا في كذبة إغراق السفينة (ساسكس) في القناة الإنجليزية، وهلاك كل من عليها من الرعايا الأميركيين. عندئذ أسرع الرئيس ويلسون يحمل هذه الكذبة إلى الكونغرس ليطالبه بإعلان الحرب على ألمانيا.. لكن ثبت بعد ذلك أن (ساسكس) لم تغرق، وأن أحدا من الأميركيين لم يمت. ولقد قمت بنفسي باجتياز القناة الإنجليزية على متن السفينة ساسكس»!!.. إن عددا محدودا من الناس هو الذي يعرف هذه الحقائق وذلك لعدة أسباب أولها: أن قراء هذا النوع من الكتب يكونون قليلين في العادة. ثانيها: أن الكتاب حورب وحوصر كما حورب وحوصر مؤلفه.

أما السبب الأكبر في «الجهل» بهذه المعلومات هو: أن تلك الحقبة (ظروف الحرب العالمية الأولى) كانت خالية - بالقطع - من مواقع الإنترنت، ومن الفضائيات العابرة للقارات.. ولو كانت وسائط الاتصال هذه موجودة - يومئذ - لعرف معظم البشرية - وقتئذ - هذه الحقائق والمعلومات.. وهذا هو المقصود - بالضبط - بالمقارنة بين ذلك العصر وأيامنا هذه.. مثال ذلك: أن كذبة أسلحة الدمار الشامل التي تأسس عليها غزو العراق قد اكتشفتها البشرية قبل الغزو، وفي أثنائه، وبعده، كما اكتشفت ما جرى من أهوال في سجن أبو غريب وغيره.. ووسائل معرفة ذلك هي المواقع الإلكترونية، والفضائيات التلفزيونية.

وفي عنوان كتاب «كيف يصنع الدبلوماسيون الحرب» لمسة دبلوماسية واضحة، وإلا فإن حقيقة الكتاب هي: كيف تصنع الأكاذيب الدبلوماسية الحرب؟.. ولا ريب في الصلة الوثقى بين مضمون هذا الكتاب وبين مضامين الوثائق «الدبلوماسية» التي نشرها موقع «ويكيليكس».. فهذا الموقع نشر الوثائق كما هي: ببرهان أن أحدا لم ينكر وجودها، ولم يزعم تحريفها، بيد أن هناك احتمالا قويا أو راجحا في أن مضامينها قد انطوت على أكاذيب. فكثير من الوثائق أصله «كلام منطوق» قاله هذا المسؤول أو ذاك: في هذه الدولة أو تلك، ثم صاغه الدبلوماسيون الأميركيون وأرسلوه مكتوبا إلى وزارة الخارجية الأميركية، ولما كانت ثمة إحصائية أميركية تقول: إن 87% من الأميركيين يكذبون، فإن الدبلوماسيين الأميركيين ليسوا استثناء «معصوما» من هذه الإحصائية.

جماع هذا المحور الأول هو: الاعتراف الموضوعي بـ«سلطان العلم»، وبنفوذه الغلاب. فمن المواليد الشرعية للعلم: «التقدم المتصاعد أبدا في تكنولوجيا المعلومات».. وهذا هو الجانب الإيجابي والمحايد - والمبهج - في مفهوم العولمة، إذ هو جانب عماده: «عالمية المعرفة»، أو «كوكبية المعلومة»، وكسر الحواجز التي تعترضها أو تؤخر وصولها.. وهذا التقدم مقترن - دوما - بما يتناغم معه ويندغم في صميمه، أي مقترن بـ«السرعة».. فمن خصائص المعلومات: أنها قابلة للنقل بسرعة الضوء.. ولقد أودع الخالق المبدع - تقدس في علاه - : أودع في الكون، في الأجواء والفضاء: قابلية لسريان ذبذبات الكلمات والصور من خلاله.. وهذا تسخير من التسخير: «وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه».

نقفّي على المحور الأول بتاليه وهو «محور الشفافية». فهذه الشفافية مفهوم أو مصطلح شاع استعماله إلى درجة الابتذال، وليس في المصطلح ذاته خطأ أو نقيصة، فهو لفظ عربي أصيل من دلالاته: نزع الحجاب أو الغموض عن الشيء حتى يُرى على حقيقته دون تدليس ولا دس ولا إبهام.. ومن مفاهيمه السياسية والاجتماعية: أن من حق الناس أن يطلعوا على الحقائق والوقائع المتعلقة بشؤونهم الحياتية.. بيد أن هناك من أساء استعمال هذا المصطلح فاتخذه شعارا يحرج به الآخرين على حين أنه هو نفسه لا يطبقه على ذاته، أو لا يطبقه باطراد وصدق. فأميركا - مثلا - تطالب دول العالم بالشفافية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ذات الوقت الذي تلف نفسها فيه بشبكة من الطلاسم والألغاز في كثير من الأمور.. فهل قرر موقع «ويكيليكس»: أن يحاكم أميركا إلى الشعار الذي ترفعه ولا تطبقه؟.. لنفترض ذلك، لنفترض أن أصحاب هذا الموقع قد اقتنعوا بمبدأ «الشفافية» ورأوا أن الدول الديمقراطية الغربية تكذب في ادعاء الشفافية، وأن هذا الموقع يقدم نموذجا صادقا لممارسة الشفافية الحقيقية، ولنفترض ذلك بناء على أن كثيرا من العاملين في الموقع «حقوقيون» أو مدافعون عن حقوق الإنسان، وبناء على مبدأ يتبناه الموقع وهو «المصداقية والشفافية في نقل المعلومات والوثائق التاريخية وحق الناس في صناعة تاريخ جديد».. لنفترض ذلك كله وهو افتراض مسنود بحسن الظن بـ«الإنسان» وبأن في البشرية من يكدح في سبيل الارتقاء بها بسلوك طوعي نبيل: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض».