أبعاد أخرى لحكاية «ويكيليكس»

TT

موقع «ويكيليكس» عيّنه مؤسسه جوليان أسانغ منبرا مفتوحا لعموم الناس لنشر المعلومات المسربة، وغالبا بطرق غير مشروعة، سواء مسروقة، أو بمخالفة حاملها للوائح وقواعد وشروط تعاقده مع محل عمله أو مع أصحاب المعلومات.

اسمه مركب من كلمتين: leaks - Wiki.. تهمنا منهما الثانية، وهي من الفعل «To Leak»، والأصل تنقيط المياه متسربة من حنفية تشققت حلقة مطاط ضغطها وتحتاج لمهارة السباك (بالمناسبة «حنفية» تسمية مصرية بتأنيث «حنفي» بفتوى أزهرية حسب المذهب «الحنفي» بجواز الوضوء منها بعد إشاعة السقاة تحريم الوضوء من غير مياه يحملونها من النيل في قربهم، بعد أن هدد توصيل محمد علي باشا أنابيب المياه النقية للبيوت أرزاقهم)؛ وقد استخدمتها الصحافة أثناء الحروب النابليونية (1799 - 1815) لوصف معلومات حاول الجيش إخفاءها عن السلطة الرابعة.

الموقع نشر أكثر من ربع مليون من وثائق مسربة، كلها برقيات أو فقرات من تقارير أرسلها أو تلقاها السفراء والدبلوماسيون الأميركيون حول العالم إلى ومن وزارة الخارجية في واشنطن.

ونشر الوثائق المسروقة أثار عاصفة سيادبلوحافية (استعارة ورقة من كتاب الموقع باجتهاد شخصي لتركيب كلمة تعبر عن مجالات الزوبعة: سياسة ودبلوماسية وصحافة).

والحادثة، التي تستمر شظاياها في التساقط على المجالات السيادبلوحافية، يجب ألا يحول بريق شرارتها أنظارنا، أو يسد دوي انفجارها أسماعنا، عن التأمل وفحص ثلاث أساسيات وراء الحكاية. والأساسيات قلب مثلث أبعاده تربط أطرافا ثلاثة: الدولة (بما فيها الحكومة المنتخبة والمؤسسات الثابتة)؛ والسلطة الرابعة كرقيب أخير، بعد القضاء والبرلمان المنتخب، على أداء الحكومة، وكشاهد للتاريخ؛ والطرف الثالث المستهلك الصحافي (قارئ، ومستمع، ومشاهد) أي الرأي العام، حيث تخاطبه السلطة الرابعة كضمير الأمة.

الأساسية الأولى هي مؤسسات الدولة، وأقصد هنا المسؤولين الثابتين، في الوزارات، والمخابرات، والأمن، والخارجية (وهم غير الوزراء المنتخبين الذين يتغيرون بإرادة الشعب في صناديق الاقتراع)، فالمسؤولون لا يتبدلون بتبدل الحكومة.

ولع المسؤولين الذي يبلغ حد الهوس (obsession) بالسرية، وتفننهم في إخفاء أبسط المعلومات عن الصحافي، يجعل من تسرب المعلومات خبرا، ويدفع الصحافي إلى التفنن في التحايل على المسؤول الذي لا يثق به أبدا (أحد شيوخ الصحافة همس في بداية عملي الصحافي «في كل مرة تقابل مسؤولا، ذكر نفسك طوال المقابلة، يا ولدي العزيز، بالسؤال: ما الذي يحاول إخفاؤه عني؟)».

بل إن المسؤولين يحاولون إخفاء معلومات مصدرها الأصلي الصحافة.. وأذكر أثناء زيارتنا لتغطية الحرب الأفغانية الأولى ضد السوفيات ملاحظتنا وجود طائرة حربية روسية جديدة في مطار كابل، لاحظها زميل مخضرم كان مراسلا حربيا منذ الحرب الكورية (1950 - 1953)، فخمن أن السوفيات لا بد يعدون هجوما في الجبال لقدرة هذا النوع من الطائرات على المناورة في الأودية الضيقة. بعد بضعة أيام ذكرنا الملاحظة في دردشة عشاء في مقر المندوب السامي في إسلام آباد (السفارة البريطانية دائما المحطة الأولى للزيارة فور وصولنا أي عاصمة لتحية السفير وإعلامه بعنوان الفندق تحسبا للطوارئ وأيضا معرفة ما لديه من معلومات بحكم خبرته كمقيم في البلد)، واهتم الملحق العسكري بوصفنا للطائرة ورسمها الزميل على مفرش المائدة. الطريف أنه بعد أشهر طلب زميلنا المحرر العسكري، من وزارة الدفاع، معلومات عن «تراجع المجاهدين» مع تصعيد الروس الهجمات الجوية؛ فرفضت الكشف عن أسرار الأمن القومي (رغم أن المصدر حديثنا مع الملحق العسكري في إسلام آباد، فلخصت المعلومات للزميل؛ وبعد النشر طلب موظف من الوزارة لقاءه، فغرمناه ثمن «عزومة» في السافوي، وكانت نكتة شارع الصحافة).

الأساسية الثانية هي إفلات مدوني مواقع الإنترنت من القواعد الصارمة التي تحكم عملنا كصحافيين، نخضع معلومة واحدة مسربة للتأكد، ويتم وضعها في سياقها التاريخي وظروفها السياسية، والاتصال بجميع الأطراف المعنية، قبل أن نجرؤ على النشر. والملاحظ أن كل برقية أو معلومة مسربة لـ«ويكيليكس»، هي لقطة من مشهد من مسلسل طويل (كأطماع إيران في الخليج مثلا ورد فعل العرب، فهي أمر معقد يعود لعشرات السنين بين أطراف متعددة.. ولذا فنشر عبارة واحدة من لقاء من عدة لقاءات يكون له تأثير آية «لا تقربوا الصلاة..» مع تجاهل بقية الآية، ناهيك عن السورة كلها).

وأذكر في شبابي، أنه كانت هناك معلومات مصدرها مهندس من معمل إنتاج مواد حربية ألماني عن بيع شركته أجزاء أسلحة محظورة لبلد شرق أوسطي. وتقليديا، تخضع الـ«ديلي تلغراف» المعلومات لثلاثة مصادر لا تعرف بعضها بعضا ولا تربطها مصالح مشتركة كوسيلة للتأكد من المعلومة. واستغرق مني الأمر أسبوعين للتأكد، وإذا برئيسي المباشر (محرر الديسك الخارجي) يرفض النشر. هدأ الرجل من غضبي بدعوة غداء، وفي المطعم شرح لي الأسباب بصبر الأساتذة (كان عمري وقتها 29 عاما، وكان عمره 64 عاما). مصدري الأول كان زميل جامعة سابقا يعمل في المخابرات البريطانية، وقال رئيسي «أليس البلد المعني في عداء مع بريطانيا ويهاجمها إعلامه؟»، وهز رأسه مبتسما لإيماءتي بالإيجاب، زارعا ببذرة الشك في نية المخابرات البريطانية تأكيد المعلومة.

والمصدر الثاني كان مخابرات بلد مجاور للبلد المعني، فنبهني محرر الديسك بأن العداء والاقتتال بين الجارتين يضعف من مصداقية المصدر.

أما مصدري الثالث فكان خبيرا في شركة تصنيع طائرات وصواريخ بريطانية، رفضه أيضا المحرر العجوز فورا لأن «غيرة» المنافسة بين الشركتين ستدفع البريطانية لإفساد الصفقة بفضحها. أما الـ«فوتوكوبي» من فاكس من العاصمة الشرق أوسطية، عن طريق المهندس الألماني، فكان مبررا لإصدار المحرر العجوز الحكم بعدم ائتمان المهندس «الغادر» للشركة مصدر رزقه، أو أن دافعه الحقد إذا كان فصل منها، إلى جانب أننا لا نعتمد في الـ«تلغراف» على مصدر واحد.

وبحنان الأب الذي يحول دون إضرار الابن بنفسه، قال «إن مجرد الشك يا ولدي العزيز يمنعني من نشر ما قد يلوث سمعتك، ولا يزال أمامك طريق طويل في شارع الصحافة». ورغم اتضاح صحة المعلومة بعد بضع سنوات، فإنني ممتن للرجل، رحمه الله، لأنه علمني أهم قواعد الصحافة، وهي مسؤولية عدم النشر إلا بعد التأكد بما لا يدع أي مجال للشك؛ وهي للأسف قاعدة لا تسري على شبكة الإنترنت وبناتها.

الملاحظة الأخيرة تدعو للحزن، إذ لا يوجد بين البرقيات المسربة إلى «ويكيليكس» ما يشير إلى إثارة مسؤول أو دبلوماسي أميركي مع زعماء ومسؤولي العالم الثالث مسألة حقوق الإنسان والديمقراطية وحكم القانون، وإقناعهم بضرورة شفافية الانتخابات ومكافحة الفساد، على سبيل المثال لا الحصر.