هل يمكن للفلسفة أن تنقذ العرب؟

TT

حسنا فعلت اليونيسكو إذ اعتمدت يوما محددا في كل عام للاحتفاء بالفلسفة وتقدير أهميتها وإنجازاتها بالنسبة للجنس البشري كله. فاليونيسكو تحديدا ومنذ تأسيسها مسؤولة عن حوار الحضارات والثقافات المختلفة. وهل هناك أفضل من العقلانية الفلسفية لتحقيق ذلك؟ من المعلوم أن العقل البشري واحد ولكن العقائد والمذاهب شتى. نفس القوانين الطبيعية لعلم الفيزياء والمنطق الفلسفي تدرس في جامعة الرباط والقاهرة وسواهما مثلما تدرس في جامعة طوكيو أو باريس أو واشنطن... الخ. وبالتالي فالعقل هو الذي يوحد في حين أن المذاهب الدوغمائية هي التي تفرق وبخاصة اذا ما فهمت بشكل خاطئ ومتعصب من قبل أتباعها المشغوفين بها حبا.

من هنا أهمية تدريس الفلسفة في كل بلدان العالم لأنها توسع آفاقنا وتخرجنا من انغلاقاتنا المزمنة وتجعلنا أكثر تسامحا وتربط بين كل شعوب العالم من خلال المبادئ الكونية التنويرية. ومن المعلوم أن الحضارة العربية الإسلامية لم تزدهر وتشع على العالم وتعطِ أفضل ما عندها إلا عندما كانت الفلسفة فيها شائعة ومزدهرة. هل نعلم أن اليونسكو اعتمدت هذا اليوم بناء على اقتراح بعض البلدان وفي طليعتها بلد عربي مسلم؟ نعم يشكر المغرب لأنه كان من أوائل من اقترح على اليونسكو تخصيص يوم كامل للفلسفة منذ عام 2002. فبناء على اقتراح مندوبه ومندوبين آخرين في المنظمة الكونية العريقة تم اعتماد ذلك.

أيا يكن من أمر فقد أسعدني أن أشارك في الاحتفال بهذا اليوم ومن الرباط بالذات. وأسعدني أكثر أن الداعية إلى ذلك كانت الشاعرة المبدعة ثريا ماجدولين الأمينة العامة للجنة الوطنية المغربية لليونسكو. وقد عقدت الجلسات في قاعة الشريف الإدريسي المجاورة لقاعة المفكر المغربي والعربي الكبير محمد عابد الجابري. وانتهزنا الفرصة للتحدث عن مفكر كبير آخر هو: محمد أركون واستراتيجيته النقدية في قراءة التراث. أحد الدروس الأساسية التي خلفها لنا أركون هو التالي: لم تنهر الحضارة العربية الإسلامية ولم تفقد بريقها وإشعاعها إلا بعد أفول الفلسفة بل وتكفيرها من قبل كبار الفقهاء. بعدئذ لم تقم لنا قائمة في الساحة العالمية وأصبحنا في مؤخرة الأمم والشعوب على هامش التاريخ. منذ ثمانية قرون ونحن مهمشون ضائعون محتقرون من قبل أمم الغرب الكبرى التي تتلاعب بنا كما تشاء. هذه حقيقة ينبغي أن نتأمل فيها مليا إذا ما أردنا الخروج يوما ما من حالة التهميش والعطالة الذاتية التي نتخبط فيها حاليا.

السياسة وحدها لا تكفي للخروج من المأزق. لقد جربناها وجربنا شعاراتها الجوفاء فلم نصل إلى شيء. كل التيارات السياسية فشلت: من القومجية إلى الماركسوية إلى الأصولية. والسبب هو أنها خالية من الفلسفة أو لا تقوم على قاعدة علمية وفلسفية صلبة. الفكر الآن أصبح أكبر سياسة وأخطر سياسة في عالمنا الحالي. ومن لا يمتلك ناصيته لا مكانة له على مسرح التاريخ المعاصر.

وبهذه المناسبة لا بد من الإشادة بالتصريحات الأخيرة للدكتور محمد مصباحي أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس. فهو يقول هذه الفكرة الجوهرية: وهي أن المعاهد العليا والجامعات التكنولوجية التي تهيمن عليها العقلانية التقنية والآلية تعتبر بؤرة للأصولية. لماذا؟ لأنها عقلانية إجرائية موجودة بمنأى عن العقلانية النقدية أي العقلانية التنويرية. من هنا هذه الظاهرة المفاجئة والصادمة جدا: كثرة عدد الأصوليين في كليات الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء.. والسبب هو أن العلم بحد ذاته غير قادر على التفكير كما يقول الأستاذ مصباحي نفسه. وهي نفس العبارة المدوية التي أطلقها مارتن هيدغر في وقته عندما قال: العلم لا يفكر! علم الفيزياء لا يفكر ولا علم الكيمياء أو الرياضيات. إنه يستخلص فقط القوانين التي تتحكم بالطبيعة. أما ما عدا ذلك فليس من اختصاصه. الفلسفة وحدها هي القادرة على التفكير النظري البعيد المدى. إنها مسؤولة عن التفكير حتى في نتائج العلم نفسه بل وإيقافه عند حده إذا لزم الأمر أو إذا ما انحرف وضل الطريق. انظر الانحرافات الحاصلة حاليا في مجال الاستنساخ ومحاولة التحكم ببنية الكائن الإنساني أو تعديل تركيبته عن طريق التلاعب بالجينوم الوراثي. العلم رائع ومهم جدا ولكنه سلاح ذو حدين إذا لم يضبطه الضمير الكوني والإنساني للفلسفة. مقولة هيدغر عميقة ومهمة جدا. فعلم الطب يمكن أن ينقذنا من أخطر الأمراض ولكن يمكن أيضا للطبيب العديم الضمير أن يقتل المريض إذا شاء وعن سابق قصد وتصميم أو بناء على أمر سري صادر عن جهات جهنمية لا شكل لها ولا وجه. من هنا تلك العبارة الرائعة للفيلسوف الفرنسي رابليه: علم بلا ضمير خراب للروح. وهنا يكمن في رأيي أكبر انحراف للحضارة الغربية الحديثة. هنا يكمن شططها وإجرامها وخيانتها لمبادئ التنوير الكونية التي رسختها فلسفة مونتسكيو وروسو وكانط... الخ. أيا يكن من أمر فالاهتمام بالفلسفة وعلم الأخلاق أصبح ضرورة أكثر من ملحة بالنسبة لعالمنا العربي، وذلك بغية تخريج أجيال جديدة قائمة على التفكير الذاتي الحر المبدع لا على التلقين الآلي الببغائي والحفظ عن ظهر قلب.

هناك سياسة جديدة للتربية والتعليم ينبغي اتباعها إذا ما أردنا الخروج من النفق المظلم وتخريج أجيال ذكية قادرة على مواجهة التحديات.