ربما تكون قصة أو مسرحية أو مقالة

TT

كان ضابط المباحث العجوز يفكر في مقال قرأه للتو عن آليات التفكير عند الإرهابي، وأعجبه أن الكاتب اكتشف ما اكتشفه هو من قبل وهو أن الفنان المبدع والإرهابي لديهما آليات واحدة في التفكير والفرق الوحيد بينهما أن هذه الآليات تعمل بشكل عكسي عند الإرهابي. أي تهدف إلى صنع الشر وتقديمه على صينية من جمرات الجحيم إلى الناس، مما يعزز هذه المقولة، الأسماء التي يطلقها أعضاء التنظيمات الإرهابية على أنفسهم، أخذ يستعيد تلك الأسماء، الأسد المهاجر، الغريبة، بنت نجد الحبيبة، النجم الساطع، أم هاجر الأزدي، هذه الأسماء وغيرها أليست مناسبة أكثر لمسلسلات تلفزيونية؟

يقال إن هذا الضابط بالتحديد بارع في تجنيد المصادر داخل التنظيمات الإرهابية، (The inside man) وكثيرا ما يقول لتلامذته من الضباط الشبان، المعلومات بالنسبة لنا هي الزاد، هي رغيف الخبز، غير أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. إن تعلم هذا أمر طيب وضروري، ولكن المطلوب منك أن تعرف.. المعلومات شيء والمعرفة شيء آخر، قد يكون من السهل عليك أن تعرف أين تلتقي مجموعة من الإرهابيين، ومتى، وفي ماذا يفكرون، ولكن المهم حقا هو أن تعرف «كيف» يفكرون، هذا هو ما نقصده بمصطلح آليات التفكير.

نودي لصلاة الظهر فخرج من مكتبه وانضم لكل موظفي مكتبه وقاموا بأداء صلاة الظهر في الممر الواسع الطويل أمام المكاتب، ولما عاد إلى مكتبه دخل عليه ضابط شاب بشاب آخر وضعت أيديه في الأصفاد فتجهم وجهه وقال في خشونة للضابط الشاب: ما حدش يدخل مكتبي وإديه في الحديد.. فك الكلبشات.. فاهم؟

أجاب الضابط الشاب بأدب: حاضر يا فندم.. فاهم.

خرج الضابط الشاب وكله خجل، الأوراق أمامه كانت تصف المقبوض عليه بأنه الأكثر تطرفا وخطورة بين جماعته، قال له: اتفضل أقعد.. إوعى يكون حد ضربك أو أهانك.. أنت متهم فقط يعني لم تتم إدانتك بعد.. أي حد يضايقك قل لي وأنا أوديه في ستين داهية.. تشرب إيه؟

فقال الشاب: مش عاوز أشرب حاجة..

فقال الضابط: طبعا انت فاكر إني بعاملك كويس عشان عاوز منك معلومات عن زملائك.. لأ أنا بعاملك كويس عشان عندي ابن في سنك ومتدين زيك، وبرضه عاوز يحول الناس كلها لمسلمين صالحين.. يا بني احنا عارفين عنكم كل حاجة.. حتى الست الحلوة اللي قعدت مع الشابين في بيت مهجور لا فيه مايه ولا نور ثلاثة أيام.. برضه عارفين حكايتها.. أنا عاوز اتكلم معاك في حاجة تانية خالص.. طبعا انت شفتنا جميعا واحنا بنصلي الضهر.. يعني احنا مسلمين زيك.. لو حد من زعمائك طلب منك تزرع لنا قنبلة هنا.. تعملها؟

أجاب الشاب بسرعة: لأ..

قال الضابط: عارف والله.. عارف من قبل ما تجاوب.. يابني انت شخص مختلف عن المجانين المتطرفين اللي معاك.. اسمع أنا حا قول لك حاجة لم تعد سرا.. انت عارف التنظيمات اللي انت فيها دي مين اللي عاملها؟.. أمريكا وإسرائيل.. عشان يشوهوا صورة العرب والمسلمين.. عشان يقضوا على الإسلام.. إيه اللي يدخلك انت في حكاية زي دي..؟ شوف.. أنا حاوريك حاجة.. بس توعدني وعد شرف إنك ما تجيبش سيرة لحد.. شوف.

يقوم ويفتح خزينة كبيرة خلف مكتبه، على الفور تظهر مئات بواكي البنكنوت من الدولارات: المبلغ ده ظبطناه امبارح.. كان جاي لعدد من زملائك، تفتكر حا يكون جاي منين؟ فيه عندنا قاعدة في البحث الجنائي.. ابحث عن المستفيد، أنا باناشد ضميرك إنك تجاوبني بصدق.. مين المستفيد من تشويه سمعة المسلمين في الغرب على الأقل؟.. مين اللي له مصلحة في إن المسلمين يعيشوا في رعب في أميركا وفرنسا وإنجلترا وهولندا وباقي دول الغرب.. ما تجاوبش دلوقت، مش عاوز اضغط عليك.. أنا حاديلك فرصة تجاوب في جو منعزل عن كل الناس.. أنا حاسيبك لوحدك في زنزانة لمدة ستة شهور عشان تفكر في الإجابة بهدوء، ولما تعرف مين المستفيد من نشاطكم ده، تيجي تقول لي..

قبل أن يواصل حديثه قاطعه الشاب: خلاص يا فندم.. أنا فكرت وعرفت مين المستفيد.

واصل الضابط: وبعد ما عرفت.. حا تسيب زملاءك يروحوا في داهية.. أليس من واجبك بعد أن عرفت، أن تنقذهم، أن تنتشلهم من الضلال اللي همه فيه.. ساعدنا اننا ننقذهم.. أنا راجل أمن شغلتي مش إني أودي الناس في داهية.. شغلتي إني أنقذهم عندما أتمكن من ذلك.. أنا باطلب منك أن تساعدني في إنقاذ زملائك..

أفرج عن الشاب بعد أن حققت معه النيابة واتضحت براءته من التهم المنسوبة إليه. ومنذ تلك اللحظة بدأ في العمل على إنقاذ زملائه من الهوة التي وقعوا فيها، وإحباط مخططات الغرب المعادية للإسلام والمسلمين، هكذا بدأت تصل كل أخبار جماعته لحظة بلحظة إلى أجهزة الأمن ذات الصلة.

الواقع أن الشاب لم يصدق حرفا واحدا مما قاله له الضابط، وهو أيضا على وعي بأن الضابط يريد تجنيده بغير ضغط أو تهديد ليكون عينا له على التنظيم، والضابط أيضا على وعي أن الزبون لم يصدق حرفا واحدا من كلامه. غير أنه كان على ثقة أن تجنيد هذا الشاب الأكثر تطرفا وخطرا بين أفراد جماعته، هو أمر سهل للغاية، كل المطلوب فقط أن يعطيه المفاتيح المطلوبة في إطار قوي من المنطق الصوري. الضابط يعرف جيدا أن المحرك الأساسي عند هذا الشاب هو العدوان وانعدام عاطفة اعتبار الذات وضعف الضمير العام، هو يريد هدفا يعتدي عليه، يفجر فيه قنبلته أو يصوب إليه سهامه، قد يكون الهدف مقهى امتلأ بالرواد، وقد يكون هدفا آخر هو زملاؤه هذه المرة. هو ليس مرغما على شيء، ومحاولة إرغامه ربما تأتي بعكس النتائج، هو يجد لذة في مهمته، إنها لذة لعب الدور، دور الشخص الشرير في العمل الفني، وهو بالضبط ما أتاحه له ضابط المباحث، أن يعتدي على آخرين تحت شعارات أخرى لن يتعب في اعتناقها، المهم أن يشعر بلذة العدوان.

نتحدث كثيرا عن المواجهة الأمنية والفكرية مع الإرهاب، الواقع أن هناك بيننا، من يسرب إلينا أخطر أنواع التطرف، إنه التطرف الناعم الذي يمارسه بعض المتطرفين الأذكياء، القادرين على صنع الفتن الطائفية بأحاديث تبدو ناعمة بريئة، والقادرين على توجيه الشبان إلى وجهات خطرة بأحاديثهم الناعمة، هم لا يلوثون أيديهم ببارود القنابل، غير أنهم قادرون بألسنتهم وأقلامهم على صنعها.