بقايا العقل الشمولي

TT

للعقل الشمولي الذي عرفناه في العراق زمنا طويلا، خاصيتان أساسيتان: الأولى أنه يرفض فكرة التنوع والاختلاف، والثانية أنه يميل إلى ممارسة الوصاية على الناس، معتقدا عدم قدرتهم على التشخيص واتخاذ القرار بأنفسهم. هكذا منطلقات هي التي ارتكزت عليها الدولة الشمولية التي حكمت العراق منذ عام 1968، وبشكل خاص في سياستها وخطابها بعد حفلة الإعدام التي نظمها صدام حسين لـ«رفاقه» الذين قتلوا، ليس فقط لأنهم اختلفوا معه، بل لأن هناك احتمالا أن يختلفوا معه في المستقبل. كانت تلك قمة جبل الجليد ومرحلة وصل فيها الإقصاء إلى داخل قيادة البعث، لكن قبل ذلك كان الإقصاء وعدم التسامح قد شمل جميع أولئك الذين يختلفون عن البعث أو لا ينسجمون مع فكرته عن الشعب والأمة كمجموعة من الأشياء المتشابهة ذات اللون الواحد والطعم الواحد.

الشيوعيون كانوا أول الضحايا الآيديولوجيين، حينما ارتد البعث عن جبهته القومية معهم، بعد أن أصبح قويا بفعل عوائد النفط الهائلة التي تراكمت في خزينته والتي بها استطاع أن يشتري سكوت المعسكر الشيوعي على ضرب الشيوعيين العراقيين، الذين تفرقوا إلى معتقلين ومعدومين ومطاردين، وبعض ممن قرر الانضواء بماكينة البعث لحفظ حياته. الإسلاميون كانوا الخصم الآيديولوجي الآخر الذي ارتد البعثيون عن تحالفهم «الضمني» معه خلال الخمسينات والستينات، عندما كان الحزب الشيوعي الأكثر شعبية وتنظيما وفعالية، وتم الفتك بالإسلاميين السنة والشيعة، في ظل صمت بل ودعم إقليمي ودولي.

عقلية الإقصاء هذه رفدتها عقلية الوصاية، فالبعث زج العراق في ثلاثة حروب دفع العراقيون ثمنها غاليا، وأدت إلى تدمير الاقتصاد العراقي والبنية التحتية، بل وتفكيك المجتمع العراقي وإطلاق كل النزعات العنفية التي رأيناها تتجسد بعد 2003، فعل ذلك دون أن يسأل الناس إن كانوا موافقين على تلك الحروب. الدستور المؤقت للحزب عام 1970 صدر ببيان لمجلس قيادة الثورة وتم إعلانه من دون أن يسأل «المواطنين» إن كانوا يريدونه أو يقبلونه دستورا. فهؤلاء في نظر العقل الشمولي غير مؤهلين لاتخاذ مثل هذا القرار والحزب «القائد» هو الأعرف بمصلحتهم. بالمثل، وضع النظام عام 1990 مسودة لدستور بديل يقول إن ذكرى «ثورة» 17 تموز 1968 هي العيد الوطني للعراق، وإن «قادسية صدام» هي رمز شرف وكرامة العراقيين ولا يجوز لأي أحد يشغل منصبا عاما أن يكون مؤمنا بذلك. ثم أعلن النظام قبوله التعددية الحزبية شريطة أن يكون الحزب المرخص قوميا اشتراكيا مؤمنا بقادسية صدام وأم المعارك وبمبادئ ثورة 17 تموز..

هكذا كانت الشمولية تعيد إنتاج نفسها بإطلاق الأكاذيب ثم تصديقها، وإجبار الناس على أن يعيشوا في عالم مزيف وأن يعلنوا ليس فقط قبولهم بأكاذيبه، بل وأيضا إيمانهم العميق بها. سيقول البعض هذا أصبح ماضيا ولا بد من الحديث عن الحاضر فقط، وأصحاب هذا المنطق يخشون من تفكيك الماضي وفضح زيفه لأنهم يريدون أن ينتجوا حاضرا مشابها له. منطق «الخوف من المراجعة» لا يقل خطرا من العقل الذي ما زال قائما بين رواد ذات المدرسة التي تخرج فيها البعثيون وبقية التيارات القومية العربية التقليدية. فهذا اتحاد الأدباء العرب الذي تسيطر عليه شلة من الآيديولوجيين غير المعروف عنهم أي إبداع أدبي حقيقي وأغلبهم معيَّن من حكوماتهم، يصر مجددا على رفض عضوية اتحاد الأدباء العراقي لأنه يتهم الاتحاد وأدباءه بأنهم لم يعارضوا الاحتلال وينصروا المقاومة. ببساطة، يقرر هؤلاء نسختهم من التاريخ العراقي على الرغم من أنف العراقيين، يقررون ماهية الاحتلال وماهية المقاومة، وما هو الموقف الصحيح من الخاطئ؟ وليس أغرب من ذلك سوى تشبث اتحاد الأدباء العراقي بطلب هذه العضوية، على الرغم من أنها لا تزيد أدب بلاد الرافدين أو تنقصه شيئا.

وعلى نفس النسق، يتمخض اجتماع لبعض الآيديولوجيين والسياسيين من المدرسة ذاتها بخصوص وضع مسودة دستور العراق لما بعد «التحرير»، عن نفس الخلطة القديمة من الأفكار الوصائية والشمولية، كفكرة أن رئيس الجمهورية يجب أن يعين نصف أعضاء البرلمان، وأن هناك محرمات يجب ألا تناقش، وغيرهما من أفكار الأربعينات والخمسينات، على الرغم من كل التجربة المرة التي عشناها بسبب الإصرار على إنكار الاختلاف والتنوع، وفرض الوصاية على إرادة الناس بحجة عدم جاهزيتهم. بالمثل، نرى أحد التيارات التي انشقت عن البعث العراقي وبدأت مراجعة جريئة توصلت بها إلى أن البعث كحزب كانت قد صودرت إرادته ودخل مرحلة اللاشرعية الحزبية والأخطاء القاتلة منذ عام 1979، حينما تم إعدام عدد كبير من أعضاء قيادة الحزب وتحولت السلطة إلى مؤسسة عشائرية وعائلية، طلب هذا التيار مما يسمى بالقيادة القومية للحزب، وهي كيان من أشخاص معزولين كانوا يتلقون رواتبهم من نظام صدام ويعملون كموظفين عنده، قبول فكرة المراجعة، فكان الرد بأن هذا التيار مرتد وخائن وإلى آخره من الخطاب الذي اعتدناه نحن العراقيين زمنا طويلا.

إن كوارث المرحلة الشمولية في العراق بحاجة إلى مزيد من الدراسة والمراجعة وعدم التردد بحجة أنه ماضٍ وقد انطوى، فإصرارنا على هذا الموقف السلبي من الماضي سيؤدي بنا إلى إعادة إنتاجه بصور مختلفة.