حين تنصف الصحراء المرأة المطلقة

TT

وهي منبوذة، تدهس كرامتها وتسقى المر من الرجل، فهي زوجة صبورة متفانية، لكن وهي تطلب الطلاق لتفطم من حياة ماضية فاشلة، وتستأنف حياة أخرى جديدة، فهي في نظر المجتمع العربي امرأة فاشلة، متصابية ومتمردة، مواطنة من الدرجة الثانية، ونبت شيطاني فاسد، فتتعالى صيحات الاستهجان، لاستئصاله، وتحاصرها شبهات وتحرشات وقيل وقال أينما حلت وارتحلت، فلم تعد المرأة إذن نصف المجتمع كما أوهموها، بل المرأة المطلقة غدت نصف امرأة، وحياة المطلقة لوثة ونجاسة، وحتى إن سعت لتطهير حياتها من «أدران» الطلاق على حد زعمهم، لتجدد هواءها المخنوق وتتخلص من فضلات الماضي، تتعالى أصوات معارضة، بحجة أنها مطلقة، وجسد انتهت صلاحيته، فتغدو المطلقة خنساء، لكنها لا تبكي صخر وإنما تبكي محاذير طوقتها وخيوط خيبة أمل وإحباط نسجتها من عيون المجتمع الفضولية، تلك التي تتلصص على حميميتها بكل وقاحة، والغريب أن من يساهم في نسج هذه النظرة القاسية، هي المرأة نفسها سواء كانت أما أو أختا أو زوجة أخ...

فالطلاق وإن كان أبغض الحلال، حلله الإسلام وحرمته المسيحية التي اعتبرت أن كل من طلق امرأته وتزوج بأخرى يزني، لكنه قد يكون بداية لحياة جديدة أكثر استقرارا للمرأة والرجل معا، حيث لم يعد الطلاق قضية نسائية صرفة بل قضية رجالية، فالرجل المطلق وإن بدا بمظهر القوي المتحدي، لكنه يمضغ في صمت مرارة أزمته، لفراق الأبناء في حال تواجدهم، ولصعوبة بناء حياة جديدة والخوف من خوض تجربة أخرى قد يكون مآلها الفشل، وإن كان المجتمع يمنح للرجل ضوء البداية بكل أريحية وحرية.

لكن المرأة العربية والمغربية المطلقة وإن أدانها المجتمع المتحضر بنظرته القاسية وبتفكيره الجماعي القاصر، فقد أنصفتها الصحراء بكل بداوتها وعرائها ونبلها وشهامتها وبكل عفويتها وبساطتها، فالمرأة عموما والمطلقة على وجه الخصوص في الصحراء المغربية، ليست نبتة هجينة بين الكثبان الرملية، أو وصمة اجتماعية في جسد المجتمع الصحراوي، ولا يتم إيذاؤها أو نعتها باللاجدوائية؛ فقيم التكتل والتضامن القبلي، تنعكس إيجابا على نظرة هذا المجتمع للمرأة المطلقة التي يتم حمايتها والاحتفاء بطلاقها صونا لعرض القبيلة ولحياتها المستقبلية، فبعد انتهاء العدة الشرعية، يتم إقامة حفل تنشد فيه الأغاني وتتزين المطلقة بأجمل الحلي والحناء، ويتنافس أبناء العمومة والمعجبون بها على تقديم الهدايا، وأحيانا يحضر المطلق في هذا الحفل وأحيانا أخرى لا يحضر، ليكون الحفل نكاية بالزوج، هي عادات غريبة لا تنتقص من قيمة الزواج ولا تقدر أو تشجع الطلاق - الذي ارتفع في الآونة الأخيرة بنسبة كبيرة في المجتمع المغربي وفي دول المغرب العربي على العموم - لكنها عادات صحراوية تفتح كوة ضوء للمرأة المطلقة عوض سجنها في سجن اللاجدوى وانتهاء الصلاحية. والشعر الحساني مزدان بقصائد قوية تمجد المرأة المطلقة وتعلي من شأنها، وقوة المجتمع الصحراوي تكمن في صنع الفرحة من عمق الأزمة، وإشعال فتيل الأمل في أفق صحراوي مترامي الأطراف ولا يخشى المجهول.

نفس الشيء بالنسبة للمجتمع الموريتاني الذي لا ينتقص من قيمة المرأة المطلقة بل يقدرها ويعتبرها أكثر خبرة وحنكة وقدرة على المضي بسفينة حياتها الزوجية إلى بر الأمان. لذلك فالمطلقة مرغوب فيها في هذا المجتمع، وينظم حفل في حالة طلاقها، كي يعيد لها ثقتها بنفسها، فالنسيج المجتمعي الصحراوي الموريتاني متماسك ويغدو أكثر تماسكا في الأزمات، وخاصة في حدث الطلاق، حيث تحس المطلقة بالأمان بين أهلها وفي مجتمع لا ينتقص من قيمتها ولا يحملها مسؤولية طلاقها كما هو الشأن بالنسبة لمعظم المجتمعات العربية الأخرى.

مجتمع صحراوي أمومي آخر، لطالما انبهرت به في روايات إبراهيم الكوني، وخاصة في رواية «المجوس» وهو مجتمع الطوارق، وهم قبائل تنتشر في الصحراء الكبرى وتتوزع بين مالي، النيجر، المغرب، ليبيا، بوركينا فاسو وموريتانيا، حيث الرجال ملثمون والنساء سافرات، وحيث البساطة تحكم العلاقات الزوجية والإنسانية، والمرأة معززة ومكرمة كما كرمها الإسلام، كما أن للمرأة الحق في الحب واختيار حياتها الزوجية مع من تحب، لا عنف ولا تحرش تجاهها ولا يعد الطلاق لعنة تحاسبها عليها الصحراء، بل تجازيها بزيجات أخرى، قد تصل إلى أربع زيجات أو أكثر، وحيث لا تضع المرأة المطلقة اللثام على وجهها، مخافة انكشاف «وصمة» الطلاق المنحوتة على جبينها، بل تفتخر بطلاقها، كما أن إجراءات الزواج والطلاق بسيطة بساطة الحياة الصحراوية، وإرادة المرأة الصحراوية حاضرة بقوة وبشموخ. وللإطلاع أكثر على مجتمع الطوارق، هناك دراسة رائعة للدكتورة بثينة شعبان بعنوان «الحياة والحب في مجتمع الطوارق» يكشف عن الوضع الاجتماعي للمرأة عند الطوارق، من خلال رحلة قامت بها الدكتورة بثينة شعبان لقبائل الطوارق.

الجميل أن الصحراء رغم بداوتها وعرائها، لم تتخل عن المرأة المطلقة، بل آوتها ودثرتها، في الوقت الذي كنا ننتظر من المجتمع المتحضر سواء العربي أو الغربي والذي يدعي الحداثة، والذي استغرق زمنا طويلا من التنظير والنضال والتمرد من أجل زحزحة النظرة الدونية عن المرأة وإدماجها في كل مجالات الحياة ورفع الغبن عنها. كي يكون بلسما للمرأة المطلقة التي لا تحلم إلا بحياة أكثر أمانا، وبناء نفسها من جديد، لكنه في حالة المرأة المطلقة كان كمن يداوي الرمد بقلع العيون، فالدور إذن موكول لإعلامنا العربي وللتربية الأسرية من أجل تنقية الوعي الجماعي من تلك الأفكار المغلوطة حول المرأة المطلقة، والكف عن إدانتها وتحميلها مسؤولية إخفاقاتها السابقة وتكريس هذا الفشل في حياتها المستقبلية.

* كاتبة من المغرب