الروح الرياضية في مواجهة قلة الأدب

TT

في الوقت الذي كان فيه وزير خارجية بريطانيا جاك سترو يبدأ في طهران يوم الاثنين 24-9-2001 الماضي زيارة الى ايران، هي الاولى يقوم بها وزير خارجية بريطاني منذ قيام الثورة عام 1979 ويلقى فيها استقبالاً راقياً ويسمع من رئيسها محمد خاتمي كلاماً موضوعياً وتحليلاً منطقياً للوضع العام في منطقة الشرق الاوسط وفي العالم عموماً في اعقاب العملية الترويعية في نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر (ايلول) الماضي، فإن رئيس وزراء اسرائيل آرييل شارون الذي يضايقه مثل هذا الانفتاح المتبادل بين ايران وبريطانيا كان في تل ابيب يرصد تحرك الوزير البريطاني ويراقب كل كلمة تصدر عن هذا الوزير. وعندما سمع قوله خلال مناقشة مع خاتمي حول مسببات ظاهرة الارهاب «انني اتفهم ان احد العوامل التي تساعد على تغذية الارهاب هو الغضب الذي يشعر به العديدون من السكان في هذه المنطقة ازاء الاحداث التي تقع على مدى سنين في فلسطين...»، فإن شارون قرر أنه لن يستقبل الوزير البريطاني الذي سيصل الى تل ابيب في اليوم التالي تبعاً لجولته المقررة في بعض دول المنطقة. كذلك حذا رئيس الدولة موشيه كاتساف حذو شارون. والسبب كما اوضحه مكتب هذا الاخير هو أن تصريحات الوزير البريطاني المشار اليها تعتبر «مناهضة لاسرائيل وتتسم بالتحيز والتعاطف مع الارهاب الفلسطيني...»، كما ان تعبير «فلسطين» بدلاً من «السلطة الفلسطينية» أثار على حد تعليق مكتب شارون استياء المسؤولين الاسرائيليين الذين تناوبوا على مهاجمة الوزير البريطاني.

في الوقت نفسه كان افراد من الشرطة الاسرائيلية يشتبكون بالأيدي مع الحراس الشخصيين لوزير خارجية فرنسا هوبير فيدرين الذي كان مجتمعاً في احد فنادق القدس الشرقية المحتلة بوفد من الشخصيات الفلسطينية، محاولين اقتحام الفندق، تماماً على نحو ما حدث مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك عام 1996 عندما كان في زيارة الى القدس المحتلة وأراد خلال سيره في احد شوارع المدينة المنكوبة بالاحتلال الاسرائيلي مصافحة فلسطينيين، واضطر الرئيس الفرنسي الى دفع رجال الشرطة الاسرائيليين بقوة عندما حاولوا ابعاده عن المصافحة، وايضاً على نحو ما جرى لوزير خارجية بريطانيا السابق روبن كوك عندما زار موقع مستوطنة «هارهوما» على جبل «ابو غنيم» ايام حكومة بنيامين نتنياهو وذلك لاظهار رفض الاتحاد الاوروبي وادانته لسياسة الاستيطان الاسرائيلية. ولم يكتف رجال الشرطة وبتعليمات من نتنياهو بإزعاج وزير الخارجية البريطاني وإنما الغى ذلك النتنياهو مأدبة عشاء مقررة تكريماً للوزير.

هذه التصرفات، التي تتسم بما يجوز اعتباره قلة ادب وفظاظة وعجرفة من جانب المسؤولين الاسرائيليين مع مسؤولين يمثلون دولاً كبرى، تدعو الى الاستغراب. وتزيد من الاستغراب هذه الروح الرياضية التي تتعامل بها الدول الكبرى مع تلك التصرفات، وكيف انه بدل تلقين المسؤولين الاسرائيليين دروساً في اصول التعامل وفي معرفة الحدود، فلا يتجاوز المسؤول الاسرائيلي حدوده ويعرف ان حجمه لا يعطيه القدرة على ان يتعامل بهذه الطريقة مع من هم اسياده والذين من دونهم ما كان للدولة العبرية ان تقوم، ولا مخاطبتهم بهذا الاسلوب الفظ الذي يفتقر الى الادب، فضلاً عن ان المألوف هو أن الكبار هم الذين يوقعون القصاص والتأنيب بالصغار وليس العكس.

ولقد فوجئنا وإلى درجة التعجب بأن الروح الرياضية وصلت الى حد أن رئيس الحكومة البريطاني توني بلير اتصل بشارون وبعد الاتصال اعاد هذا الاخير النظر في القرار الذي كان قد اتخذه وقضى بتأديب وزير خارجية البلد الذي لولا وعد وزير خارجيتها السيئ الذكر بلفور، لما كانت هنالك دولة اسمها اسرائيل، ولكانت فلسطين التي احتج شارون لانها وردت بشكل عفوي على لسان سترو بدل «السلطة الوطنية الفلسطينية» دولة قائمة الآن وذات سيادة وتمتد من الجليل الى غزة بعد أن يكون شملها الجلاء البريطاني، على نحو ما حدث لليمن الجنوبي والاردن ومصر والسودان والعراق وليبيا في الاربعينات والخمسينات عندما كانت بريطانيا تستعمر هذه الدول وغيرها وحدث المد الاستقلالي بهمة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومعاركه ضد الاستعمارين البريطاني والفرنسي، وهي معارك اثمرت استقلالات حقيقية قبل ان تنتكس جزئياً بعد ذلك.

وبصرف النظر عما اذا كان بلير قد اعتذر من شارون على تصريحات وزير خارجيته خلال وجوده في ايران فقرر هذا الـ«شارون» العفو عن وزير خارجية بريطانيا، او ان عنجهية شارون ارضاها مجرد الاتصال وبذلك منح جاك سترو «بركاته»، فإن الواقعة في حد ذاتها تعكس غرابة هذه الروح الرياضية في التعامل مقابل قلة الادب. الروح الرياضية من جانب دول مثل بريطانيا وفرنسا تبدي من التسامح مع اسرائيل ما ترفض ان تبديه مع آخرين. وقلة الادب من جانب رؤساء حكومات اسرائيلية يظنون انفسهم بأهمية حكام الدول العظمى وأن هذا الاستعلاء المصطنع يعطيهم حق التجاوز لكل الاعراف والاصول.

ونجد انفسنا هنا نتساءل: أليس من الطبيعي أن يكون وزير خارجية بريطانيا على درجة من الفطنة والكياسة عندما يقوم بزيارة الى دولة اسلامية كبرى مثل ايران، منهياً بذلك قطيعة بدأت مع قيام الثورة عام 1979 واستمرت الى عام 1998 عندما استأنف البلدان العلاقات التي عكرها مهووس يدعى سلمان رشدي وتنبهت بريطانيا متأخرة الى شر تفكيره وسوء مسلكه وأي ضرر الحقته افكار ضحلة وردت في كتاب له بالعلاقة البريطانية ـ الايرانية؟ ثم أليس من الطبيعي ان وزير خارجية بريطانيا عندما يقوم بهذه الزيارة والتي هدفها تسويق الرغبة الاميركية ـ البريطانية ـ الاسرائيلية في تجميع دول مهمة في العالم في صيغة تحالف ضد الارهاب وتغطية الاجراءات الحربية في هذا الشأن، أن يقول وهو في ايران وفي شأن الموضوع الاساسي الذي هو الصراع العربي ـ الاسرائيلي كلاماً يبرر ما يريد التقدم به كمطلب من ايران؟ والجواب عن ذلك انه طبيعي جداً علماً أنه بالعبارة التي وردت في تصريحه قال الحد الادنى الذي يجب ان يقوله، لكن رغم ذلك اعتبر شارون أن الوزير البريطاني خرج عن الخط العام واقترب من النقطة الحمراء التي تتلخص في ان ذِكْر فلسطين من المحرمات وأن ما يريده شارون هو ما يجب ان يؤخذ به! ويا ليت الاصدقاء الانكليز شاهدوا على الفضائيات الطريقة المهينة والاستعلائية التي استقبل بها شارون، وكأنما هو أمبراطور زمانه، وزير خارجية بريطانيا التي ـ لا سامحها الله ـ ابتدعت عندما كانت عظمى، وبمثل أميركا قبل 11 سبتمبر الماضي، الكيان المصطنع الذي بات اسمه اسرائيل.

الى متى سيبقى هذا الوضع الشاذ؟ وحتى متى ستبقى دول كبرى مثل بريطانيا وفرنسا تتقبل مثل هذه الاهانات تأتيها من اشخاص يمتهنون قلة الأدب في التعامل ولا يؤمنون بالسلوك القائم على الاصول فلا ترد عليها بحزم وإنما بروح رياضية وهو ما لا تفعل مع دول اخرى حتى اذا جاءتها من هذه الدول ملاحظات هي دون الاهانات الاسرائيلية بكثير؟

ويبقى ان هذه المسلكية من جانب شارون والتي تتسم بقلة الادب وعدم احترام الاصول، والتي بزَّت مسلكية نتنياهو من قبل، لا تبرر ما يفعله شارون مع الرئيس ياسر عرفات الذي يوجه اليه الاهانة تلو الاهانة وبالذات ما يتعلق باللقاء بينه وبين وزير الخارجية شيمون بيريز. ولولا ان هذا الاخير من النوع الذي جعله المنصب يتقبل اي اهانة لكان الرئيس عرفات بدا وحيد زمانه في هذا الكم من الاهانة والاستهانة يلحقها به هذا السفاح الذي لم يدمر رئيس حكومة اسرائيلية علاقة الولايات المتحدة بالعالمين العربي والاسلامي كما دمر وتفنن في التدمير، ولكن الرئيس عرفات هو واحد من مجموعة يتلاعب بهم شارون هادفاً من كل ملعوب مع احدهم الى غرض معين. وكل هذه الاغراض تصب في الهدف الرئيسي الذي هو تدمير العلاقة الاميركية اولاً والعلاقة الاوروبية اذا امكن، مع الدول العربية والاسلامية. وايضاً وضع المزيد من الأسافين في طريق اللقاء الذي طال انتظاره وكثرت تأجيلاته ومعوقات وحجج عدم إتمامه بين الرئيس بشار الاسد والرئيس ياسر عرفات... وهو اللقاء الذي من شأنه انقاذ ما يمكن انقاذه وتعطيل ما يجب تعطيله من محاولات تصفية للقضية الفلسطينية.