عام الانتفاضة أفشل مخططات شارون ..

TT

بعد مرور عام على الانتفاضة الشجاعة التي انطلقت بعد زيارة شارون الاستفزازية للحرم القدسي الشريف، جدد الفلسطينيون العهد بالاستمرار في التصدي للاحتلال الاسرائيلي حتى زواله، لكنهم عادوا الى منازلهم، بعد ان عبروا عن التزامهم هذا عبر مظاهرات حاشدة في كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، ليذرفوا دموع الحزن على الشهداء والجرحى الذين سقطوا خلال عام، برصاص وقذائف المحتلين الاسرائيليين. وفي منازلهم (أو ما تبقى منها) فكروا ايضا بالمستقبل القريب والبعيد... وقلقوا. وفكروا في قوت ابنائهم وبناتهم... وقلقوا. وناموا لدفن القلق، كي يصحوا فجر اليوم التالي على انفجارات وقذائف الدبابات الاسرائيلية وازيز رصاص رشاشاتها التي اطلقت النيران في كل الاتجاهات. وتهيأ الفلسطينيون لتوديع مزيد من الشهداء، ونقل مزيد من الجرحى للمستشفيات، وللاستمرار في انتفاضتهم لطرد الاحتلال.

لقد احتفل شارون بالذكرى الأولى لزيارته الاستفزازية للحرم القدسي الشريف بقتل اثني عشر فلسطينيا وجرح اكثر من مائة وتدمير ثمانية عشر منزلا. لقد بلغت حصيلة العام الأول للانتفاضة الشجاعة استشهاد سبعمائة فلسطيني (بينهم 174 طفلا دون الثامنة عشرة) وجرح ثلاثين الف فلسطيني (بينهم ثلاثة آلاف حالة أصيبت بعاهات دائمة) ودمرت الدبابات والطائرات الاسرائيلية (الاميركية الصنع) خمسة آلاف وواحدا وعشرين بيتا، تاركة بلا مأوى اكثر من أربعين الف فلسطيني وفلسطينية، واغتالت 65 كادرا سياسيا واقتلعت مائة وتسعين ألف شجرة مثمرة. وقد دفع هذا الحال النازف والمؤلم بالاتحاد الأوروبي الى بحث إعلان فلسطين منطقة منكوبة. ومع بداية العام الثاني للانتفاضة ينظر الفلسطينيون بشك الى التعهدات التي قطعتها اسرائيل خلال الاجتماع الذي عقد بين الرئيس ياسر عرفات ووزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريس في مطار غزة الدولي يوم الخميس الماضي، أي مع نهاية العام الأول للانتفاضة.

وشك الفلسطينيين نابع من معرفتهم ان شمعون بيريس لا يملك صلاحيات لعقد اتفاقات، وان عليه ان يعود لرئيس وزرائه شارون لينال موافقته، أو معارضته لما بحثه وتعهد بشأنه. وهم يشككون في التزام اسرائيل، لأن خبرتهم وتجربتهم دلتهم على ان جيش الاحتلال الاسرائيلي يهاجم ويقصف ويقتحم ويدمر، من دون سبب سوى الاستمرار في الهجوم العسكري لارضاخ الشعب الفلسطيني. وهذا ما حصل في ليلة اللقاء بين الرئيس ياسر عرفات وشمعون بيريس، عندما اقتحمت الدبابات الاسرائيلية رفح ودمرت 18 منزلا وقتلت خمسة فلسطينيين وجرحت ثلاثة وعشرين آخرين. والمثير للاشمئزاز هو ان جيش الاحتلال أعلن (رغم وقف اطلاق النار) ان دباباته وجرافاته اقتحمت رفح لتدمير هذه المنازل لأنها كانت تستخدم «مراكز لتهريب السلاح» وانه اثناء قيام الدبابات بالتدمير تصدى الفلسطينيون لمنعها فحصل الاشتباك. وهذا ليس منتهى الوقاحة فقط، بل كان اعلانا سياسيا من شارون انه لا يريد لنتائج اجتماع عرفات وبيريس ان ترى النور. ولكن على الرغم من شكوك الفلسطينيين ذات الاسس الواضحة، فقد التزموا بقرار الرئيس ياسر عرفات وقف اطلاق النار، وذلك لاعطاء فرصة للجهود العربية والدولية كي تطبق توصيات ميتشل وتبدأ المفاوضات حول الوضع النهائي لإنهاء الاحتلال. وفي ظل هذه الاجواء المشككة بالنيات الاسرائيلية والقلقة، وفي ظل التوتر الشديد والحياة الاقتصادية الخانقة يراجع الفلسطينيون حصيلة كل عام كامل من التضحية والنضال ضد الاحتلال الاسرائيلي، ويسألون انفسهم واصدقاءهم عما حققته الانتفاضة في عامها الاول وقد كلفتهم غاليا. فاجهزة الاعلام والدعاية الاسرائيلية صبت خلال هذا الاسبوع بكثرة تحليلات واقوال المسؤولين الاسرائيليين وكبار ضباط جيش الاحتلال، لاقناع الاسرائيليين والفلسطينيين بان الانتفاضة لم تحقق شيئا في عامها الاول المليء بالتضحية الغالية والالم الكبير.

لا شك ان الاجابة عن هذا السؤال مهمة وضرورية لكشف دسائس المحتل، وليتبين الفلسطينيون والعرب التراكم السياسي الكبير الذي انتجته الانتفاضة. لكن في البداية لا بد لنا من التذكير بان الانتفاضة الفلسطينية انطلقت ردا على الاستفزاز الاسرائيلي ورفض حكومة باراك وحكومة شارون التي تلتها الوفاء بتعهدات اسرائيل وبتطبيق الاتفاقات الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية، والالتزام بتطبيق الشرعية الدولية.

ان الهجمة الشرسة التي تعرض ويتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ عام جاءت بقرار اسرائيلي ظنا من باراك وشارون ان استخدام القوة العسكرية ضد الشعب الفلسطيني الاعزل من السلاح سوف يجبر الفلسطينيين وسلطتهم الوطنية على الرضوخ للحلول التوسعية الاسرائيلية. واذا كان هذا هو هدف باراك وشارون من شن الهجوم العسكري الهمجي ضد الشعب الفلسطيني (وهو كذلك) فان اهم انجازات الانتفاضة خلال عامها الاول يتحدد بتفحص نتائج هذا الهجوم الاسرائيلي الهمجي. ومن الواضح للعالم اجمع، وللفلسطينيين والاسرائيليين على السواء، ان بارك وشارون فشلا فشلا ذريعا في اكراه الفلسطينيين واجبارهم على التراجع عن اهدافهم الوطنية والقبول بما طرحه شارون من حل توسعي اسرائيلي. وهذا الفشل الاسرائيلي الذريع اثبت ويثبت للعالم اجمع ان ارادة الشعب الفلسطيني وتصميمه على انتزاع حريته وانهاء الاحتلال واقامة الدولة المستقلة ارادة صلبة لا تهزها دبابات شارون ولا طائرات الاباتشي واف ـ 16.

وننطلق من هذه الحقيقة للتركيز على انجازات كبيرة حققها الشعب الفلسطيني في العام الاول لانتفاضته، قد لا تكون ظاهرة للجميع في هذه الفترة لكن تراكماتها لا شك ستؤدي الى انتصار الشعب الفلسطيني على الاحتلال الاسرائيلي.

لقد فشلت الآلة الاعلامية الاسرائيلية، وشركات العلاقات العامة التي تعاقدت معها اسرائيل من اجل تحسين صورتها وتشويه صورة الفلسطينيين، فشلت فشلا ذريعا في تحقيق هدفها هذا، فقد سعت الحكومة الاسرائيلية لالصاق صفة الارهاب بالفلسطينيين وتحويل صورة اسرائيل في العالم (مرة اخرى) الى صورة الضحية، لكن نضال الشعب الفلسطيني من ناحية ومعرفة العالم بجزء من الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال ضد شعبنا افشلا هذه المحاولات، على الرغم من ان بعض العمليات المدانة التي نفذت ضد المدنيين الاسرائيليين اعطت شارون وحملته الدعائية مادة ثمينة لمهاجمة الفلسطينيين والصاق تهمة الارهاب بهم.

ولا شك ان موقف الرأي العام العالمي الذي ظهر في مؤتمر ديربان في جنوب افريقيا (في بيان ثلاثة الآف منظمة غير حكومية) واضح الادانة لاسرائيل كدولة تمارس ارهاب الدولة العنصري ضد الشعب الفلسطيني، وكذلك فان موقفي الاتحاد الاوروبي والبرلمان الاوروبي واضحان كل الوضوح في ادانتهما الارهاب الاسرائيلي والمطالبة بانهاء الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وكان هوبير فيدرين وزير خارجية فرنسا آخر من عبر عن هذا الموقف بوضوح عندما زار فلسطين الاسبوع الماضي.

وكان فشل شارون الاكبر في هذا المجال عندما حاول استغلال تفجيرات نيويورك وواشنطن المدانة ليربط بين نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال (والذي يطلق عليه شارون تعبير الارهاب) بالعمليات الارهابية التي تعرض لها مركز التجارة العالمي في نيويورك والبنتاغون في واشنطن، بل ان النتيجة جاءت عكس ما اراد شارون اذ يتزايد الاقتناع الاوروبي والعالمي بضرورة ايجاد حل عادل لقضية الشعب الفلسطيني وانسحاب اسرائيل من الاراضي التي احتلتها في حرب .1967 لقد تعهد شارون للاسرائيليين بان يفرض بالقوة العسكرية حلوله التوسعية على الشعب الفلسطيني، معتقدا ان الحل العسكري هو الطريق للهدوء ولفرض الحلول السياسية.

ومع مرور عام على الانتفاضة سجل شارون فشله وعجزه عن تحقيق هذا الوعد وبدأ الاسرائيليون يكتشفون (ولو ببطء) انه لا يمكن حل مسألة سياسية بالطرق العسكرية، وتمكن نضال الشعب الفلسطيني المكلف والمؤلم، من تثبيت الرأي السياسي مرة اخرى، في انهاء اصرار شارون على ان يعالج وقف اطلاق النار والقضية الامنية بفصلها عن البحث السياسي. ورجحت كافة الجهات الدولية المعنية بعملية السلام في الشرق الاوسط الموقف الفلسطيني بالاصرار على تطبيق توصيات ميتشل والانتقال لمفاوضات الوضع النهائي فورا.

واخر تثبيت لهذا الموقف جاء من وزير الخارجية الاميركي كولين باول الذي اكد لاول مرة بوضوح ان الولايات المتحدة سوف ترمي بثقلها من اجل ايجاد تسوية في الشرق الاوسط على اساس قراري 242 ـ 338 ومعادلة الارض مقابل السلام. وتتضح جدية الادارة الاميركية هذه المرة من خلال الاصرار على منع شارون من عرقلة اجتماع الرئيس ياسر عرفات وشمعون بيريس ومن خلال اصرارها الحازم لوقف الهجمات الاستفزازية الاسرائيلية. وسيبدو هذا الامر اكثر وضوحا من خلال لقاء مرتقب بين الرئيس بوش والرئيس ياسر عرفات. وفي هذا الاطار لا بد من لفت النظر الى ان هذه المواقف الاوروبية والاميركية لم تأت من المجهول، بل جاءت نتيجة نضال دؤوب ومواقف حكيمة اتخذها الرئيس ياسر عرفات، خاصة في فترة الصدمة الهائلة اثر العمليات الارهابية ضد المركز التجاري العالمي والبنتاغون، اذ اظهر الفلسطينيون تعاطفهم مع الاميركيين وعبروا من خلال نشاطات شعبية رسمية عن ادانتهم للارهاب الذي تعرضت له الولايات المتحدة، مما احبط محاولات شارون ربط نضال الشعب الفلسطيني بهذا الارهاب الاعمى.

ويبقى القول ان عاما من الكفاح المرير في ظل ميزان قوى يميل كليا لصالح اسرائيل، تمكن خلاله الفلسطينيون من خلق الظروف التي يمكن لها ان تعيد الصراع الى نقطته الجوهرية، اي انهاء الاحتلال الاسرائيلي.. أن ينجح شارون او يفشل في انتخابات الليكود الداخلية، قضية لا تهم العالم ولا تهمنا، ولا يمكن ان ترهن تطورات الشرق الاوسط بها، المهم الآن هو ان نستخلص من هذه الظروف الجديدة موقفا اميركيا حازما لانهاء الاحتلال الاسرائيلي.