كشف للحقائق أم تكريس لها؟

TT

لغز محير للكثيرين من المعلقين والمحللين السياسيين في أنحاء العالم، أحدثه بركان الوثائق بالغة السرية المتسربة من كواليس وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين، البركان الذي أطلقه موقع «ويكيليكس» من خلال نشره مئات الآلاف من الوثائق والبرقيات، والمعلومات السرية المتعلقة في القسم الأكبر منها بمنطقة الشرق الأوسط، وما جرى في هذه المنطقة خلال العقد الماضي من حروب على العراق، وأفغانستان، ولبنان، وغزة، شنتها الولايات المتحدة وذراعها العسكرية الموجهة منذ عقود ضد العرب، وكذلك عمليات زعزعة استقرار البلدان العربية وإضعافها بالقواعد العسكرية، وامتصاص السيولة النقدية منها بذرائع مختلفة، وصولا لاغتيال شخصيات محورية في لبنان، لتحقيق أغراض سياسية، وغير ذلك الكثير نراه الآن يوضع على موقع «ويكيليكس»! لماذا؟ وكيف؟

وبعد أن تلقى صاحب الموقع، جوليان أسانج، تهديدات وطلب اللجوء إلى سويسرا، كشف موقعه عن عشرات الآلاف من برقيات سرية أخرى تم تبادلها بين السفارات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط ووزارة الخارجية الأميركية، أو بين وزارة الخارجية ومسؤولين عرب، أو بين مسؤولين إسرائيليين ومسؤولين عرب، وكان الموضوع الطاغي في هذه البرقيات، هو التلاقي بين آراء بعض المسؤولين العرب والإسرائيليين في ما يتعلق بإيران، والتركيز في هذه الوثائق على أن الخوف من إيران، ليس مقتصرا على إسرائيل، بل إن عددا من زعماء الدول العربية يشارك إسرائيل هذا الخوف ويدعو إلى وضع حد للطاقة النووية الإيرانية. فهل المطلوب هنا أن نطبق مقولة «عدو عدوي صديقي»؟

واللافت في هذا الموضوع، أن معظم السفارات الأميركية في المنطقة، سربت محاضر جلسات وأخبارا تهدف، في مجملها، إلى تشويه صورة العرب، حتى على لسان بعض مسؤوليهم من خلال تأكيدهم على أن تكون الدولة الفلسطينية «منزوعة السلاح ودون سيطرة على مجالها الجوي ومن دون قدرة على الدخول في معاهدات مع أطراف آخرين أو السيطرة على حدودها» (انظر مقال روبرت فيسك - جريدة «الإندبندنت» البريطانية، 30/ 11/ 2010).

كما أن المبعوث الإسرائيلي إلى إحدى الدول العربية يقول إن زعيمها «لديه رؤية استراتيجية للمنطقة قريبة بشكل لافت من الرؤية الإسرائيلية» (المقال السابق نفسه). السؤال هو كيف يمكن لسفراء الولايات المتحدة في دول عدة أن يسربوا مئات الآلاف من الوثائق السرية، والبرقيات بالغة الأهمية إلى جهة تدعي حكومتهم أنها خصم لها دون أن تثير أي تساؤل أو قضية ضد هؤلاء السفراء، ودون أن تحاسبهم على إخلالهم بأمانتهم الوظيفية؟

والسؤال الثاني هو لماذا لم نقرأ تسريبات ضد جرائم جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) المعروف بعمليات الاغتيال والتعذيب التي يرتكبها ضد قادة ونشطاء الشعب الفلسطيني الأعزل؟ وتشير كل الدلائل إلى تورطه في اغتيال الشخصيات السياسية اللبنانية لتحقيق أهداف إسرائيلية معروفة ومعلنة، بل إن ما قرأناه من إيجازات عن هذه التسريبات يتجنب النيل من إسرائيل وجرائمها، بل يعمد إلى تسليط الضوء الساطع على «أن إسرائيل ليست وحيدة في رؤيتها للمنطقة، بل إن الكثيرين من زعماء العرب أنفسهم يشاطرونها الرؤية والهدف، ويعملون في السر مع الإدارة الأميركية لتحقيق ذلك، ولكنهم، وبسبب أوضاعهم في سدة الحكم، وبسبب الظروف القائمة بين العرب وإسرائيل، غير قادرين على الإفصاح عن ذلك، فهم يقولون في العلن ما لا يفعلون في السر». فهل أتت هذه الوثائق كي تجبرهم على القول علنا ما يقولونه لأعداء أمتهم سرا؟ أم هي محاولة مدروسة ضمن مخطط أميركي - إسرائيلي لإعداد الرأي العام العربي كي يتقبل بعدها التعامل العلني مع العدو من قبل البعض من زعمائه، بدلا من تعاملهم السري الحالي؟!

لقد غطى الحديث الإعلامي في العالم برمته عن تسريب هذه الوثائق، يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، الذي يصادف 29 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، كما أن نشر هذه الوثائق تزامن مع اعتقالات، وتهديدات، وسياسات عنصرية جديدة، تطال المدنيين الفلسطينيين، ومرت تصريحات ليبرمان بأن كلمة «تجميد الاستيطان» يجب حذفها من المصطلحات الإسرائيلية، دون أن يلحظها الكثير من السياسيين العرب، وعادت إسرائيل لاعتقال الأعضاء المنتخبين في البرلمان الفلسطيني، بالإضافة إلى الجرائم الإسرائيلية الشنيعة المرتكبة ضد أطفال فلسطين (انظر «هآرتس» 1/12/2010 بقلم آفي إيساشروف، الذي يتحدث عن معاناة الأطفال على أيدي جلادي الشرطة الإسرائيلية، التي يجب أن يندى لها جبين الإنسانية، وليس التاريخ اليهودي وحسب، دون أن تحظى هذه المعاناة بأي مساحة في أي وسيلة من وسائل الإعلام الغربي، ولا حتى العربي!).

ليس الهدف من هذه المقاربة، هو التشكيك فقط في نيات وأعمال من كشف عن هذه الوثائق، فقد يكون هدفه ربما كشف أحد أوجه المعاناة الإنسانية في العراق، أو غوانتانامو، أو غيرها، ولكن المآل الذي آلت إليه هذه الممارسة والتعاون المريب للجهات الدبلوماسية الأميركية معها، وتبرئة إسرائيل من جرائمها الشنيعة بشكل غريب، وغير مفهوم في خضم عملية النشر والكشف هذه، أمر يدعو إلى الاستغراب ويطرح أكثر من إشارة استفهام. كما أن التركيز على تسليط الأضواء على مواقف مفترضة لبعض الزعماء العرب من إيران، ومقارنة هذه المواقف مع الموقف الإسرائيلي، والكشف أيضا عن التعاون السري المفترض قيامه بين دول عربية مهمة والولايات المتحدة وإسرائيل، أمور تدعو إلى التساؤل عن هدف هذه العملية برمتها. إذن هل الهدف منها هو الكشف عن الحقيقة عبر نشر الوثائق، أم إظهار واقع جديد إلى العلن، يصبح محطة ينطلق منها الراغبون في الاستمرار بهذا التوجه، ولكن دون إحراج بعد اليوم، لأن ما كان يتم في السر سوف يتم في العلن بعد اليوم؟ أوليس هذا ما تسعى إليه إسرائيل منذ سنوات، وما يسعى إليه أيضا بعض المتعاونين مع العدو، حتى وهو لا يزال يحتل الأراضي العربية، وينكل بالشعب الفلسطيني، ويهدد بأسلحته الذرية الدول العربية كلها من المغرب إلى البحرين، وصواريخه، وغواصاته، وطائراته قادرة على حمل قنابله الذرية التي تستطيع أن تصل إلى كل العواصم والمدن العربية.

إذا كانت الأمور تقاس بنتائجها، فإن نتائج تسريبات «ويكيليكس»، لم تقدم للعرب، أو الفلسطينيين، أي إضاءة على الجرائم الإسرائيلية التي ترتكب ضدهم، ولم تحرك هذا الصراع إنشا واحدا باتجاه إحلال العدالة لشعب فلسطين المقهور والمحروم من الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وهو شعب أصلي يضطهد علنا منذ أكثر من ستة عقود على أرضه، ويعاني ما عانت منه الشعوب الأصلية من تطهير عرقي في القارات الأخرى.

بعد كل حجم الإعلام الذي يغفل إغفالا مطلقا معاناة شعب فلسطين، التي تمر على ضمائر الإنسانية دون أن تقلقها أو تسبب حركتها المنتظرة نحو تحقيق العدالة، تأتي الآن مئات الآلاف من وثائق «ويكيليكس» لتغفل إغفالا مطلقا جرائم إسرائيل ضد هذا الشعب. لا، بل ولتثبت أن رؤية هذا الكيان للمنطقة ومستقبلها هي رؤية يشاطره إياها كثير من زعماء العرب الذين لم يكونوا يتجرأون، حتى الآن، على الإعلان عن دعمهم لإسرائيل ضد أمتهم. فهل أتت هذه العملية الممسرحة لتنقل الصراع خطوة أخرى ضد الحق العربي، ولصالح إسرائيل التي لا تزال تحتل أرض العرب وتبتلع حقوقهم؟