زيارة لشهداء المقاومة المصرية للعدوان الصهيوني

TT

قلت لسائق العربة الأجرة: اصعد بي إلى هناك.

شعرت بالكلمة «اصعد»، على الرغم من أنني لا أعرف إذا كان الطريق صعودا أم هبوطا. أحيتني رائحتهم: أريج الزهور والفل والريحان، وكانت معي أطواق الياسمين. لم أبحث عن واحد؛ كلهم ذلك الواحد الذي يعنيني: الذي جعلني أبتسم وأشرق بالدموع. كنت أسير شوارع القاهرة هبوطا كلها، وجهي كالح جاف والخسوف كامل يجعلنا لو نظرنا في قرص الشمس نعمى، والأرض الملتهبة ترفضنا: حزن أزرق مرشوق حصاة وسط القلب.

مجموعة القرنفل أمامي لكني اخترت أطواق الياسمين يا حبيبي؛ لم أعنها واحدا بالذات حين نظرت إلى مجموعكم الممتد، «يا حبيبي» كلمة لا جمع لها: يا أنتم، يا وجهنا الجميل، حين طفت أتفقد أسماءكم اطمأننت: مجموعكم الممتد هنا هو ثمن أن ينفك عنا الاختناق ونتنسم الهواء فهاكم أطواق الياسمين يا حبيبي.

قال سائق العربة الأجرة: قريب لك؟

قلت: وأنت أليس لك قريب؟

قال: كلهم أولادنا.

قلت: نفس قرابتي يا ولدي!

ضحك وضحكت وسارت بنا العربة صامتين حتى قال: لم تقولي «مقابر الشهداء».

- قلت: اصعد بي إلى هناك.

- لذلك عرفت.

- كرهت أن أسميها مقابر.

- شواهد.

- نعم!

هبطت في ملقف الطرقات وعند المقهى لفحتني رائحة الموت وقالت لي محاجر العيون المتآكلة، ثمار غابة الشجر المر واللبلاب:

- لا فائدة من شيء.

قلت وكفي بها عبير الياسمين:

- الشواهد قالت لي غير ذلك.

هبطت حتى صعدت الدروب المنسية وتغلغلت في قرى الطمي، العيون التي أعطت سألتني:

- هل السماد طيب؟

العيون التي أعطت تقول:

- لا يزال المزيد لدي.

قالت لي الشواهد: ابن قرية الطمي يعرف كم هي غالية الأرض ويفهم الأمر؛ عدو يمنعه العلم والزرع والحصد.

في ملقف الطرقات، حيث يكثر اللغط وتتحدث محاجر العيون المتآكلة بالموات؛ حيث لا تلطم الأكف إلا أوجهها ولا تطعن الأيدي إلا صدورها، في غابة الشجر المر واللبلاب حين همهمت ترنيمة الشهيد: «جابوا الشهيد جابوه، جابوا العريس جابوه...» أصمتوني في استهانة وبلادة: عزاء لا جدوى منه!

في حديقة الشواهد حيث حملت الياسمين وحيث غنيت وبكيت قلت للشواهد:

- حين أبكي أعرف أن أبتسم، حين نتعزى نعرف أن نتواصل، الصبر ليس سكونا، الصبر ديمومة تحريك الهواء حتى يتنفس الاختناق.

قالت لي الشواهد:

- لا جدوى في غابة الشجر المر واللبلاب: نحن قد أتينا من قرى الطمي ومن الدروب المنسية.

تمتمت: «يا بلدي هاتي ما تعديش، عنا ولادك ما تخبيش».

قالت الشواهد: نحن لا ننتهي.

قلت: زرع القرون الطويلة لا ينخلع.

قالت الشواهد: وحين تذرونا العاصفة يشدنا الجذر.

قلت: وننبت أبدانا خضراء.

قالت الشواهد: الغصن الأخضر لا تحرقه النار.

قلت: الغصن الأخضر نقلب به الجمر:

«يا عود نبت في أرضي وشب

وردة جديدة مروية بدم القلب»!