تزاوج العملاقين.. الصناعة والبحث العلمي

TT

5% من سكان كوريا الجنوبية باحثون في العلوم والتقنية، من الذي يستطيع أن يمر على هذه الإحصائية ولا يتوقف عندها؟

إنها الدولة التي قررت في الثمانينات أن تنفض عنها غبار الحرب والنزاعات الآيديولوجية بحساباتها الخارجية والداخلية، ومخلفات ذلك من البؤس والفقر والإحباطات، وتركز على نقطة واحدة: التحول للصناعة من خلال تعزيز الاستثمار في العلوم والتقنية.

الهدف كان محددا وواضحا؛ لم تتوسع كوريا الجنوبية في طموحاتها أفقيا، بل عموديا.. اختارت أن تسجل أعلى قمة في صناعات عالمية محددة.. اختيار وطني استراتيجي متفق عليه. كوريا الجنوبية راهنت على العلم، ومن يراهن على العلم لن يندم، فالعقل البشري آلة منتجة وليست مكلفة، ورأسمال لا يخسر. فاختارت صناعة البتروكيماويات، والصلب، والسيارات والسفن، وتقنية الاتصال، واعتمدت بشكل كامل على التعليم كبنية تحتية لهذه الصناعات، فقفز عدد باحثيها المختصين حتى وصل إلى مليونين ونصف المليون باحث خلال 25 عاما، ولم يستطع أحد أن يثنيها عن تحقيق هدفها ولا حتى جارتها الصين التي أغرقت بضائعها الرخيصة الأسواق العالمية، أو غريمتها الشمالية المترصدة لها بالسلاح النووي. لقد نهضت كوريا الجنوبية من حفرة الفقر حينما اتكأت على الاقتصاد المعرفي.

هذه الخطة ليست سرية، بل نموذج معلن. تركيز الجامعات على مجالات بحثية محددة، وفق خطة وطنية للصناعة، سيشكل النسيج المتجانس والمتشابك بين الصناعة والبحث العلمي. ما قيمة ألف براءة اختراع من الجامعات إن لم تجد استثمارا صناعيا وطنيا لها؟ ولماذا تنشئ صناعات داخلية تصبح غريبة على أرضها ويتم تطويرها من الخارج؟

شركة «سابك - السعودية»، عملاق الصناعة، اختارت لنفسها مراكز لتطوير صناعاتها في أكثر بؤر العالم اهتماما بالبحث العلمي، فزرعت مراكزها في كوريا الجنوبية، والصين، واليابان، والهند، وهولندا، والولايات المتحدة لتطوير منتجاتها القائمة، وخلق صناعات جديدة. ولإدراكها أهمية إعداد الباحثين المختصين من أبناء الوطن، ابتعثت الشركة خريجي الثانوية العامة من السعوديين المتفوقين للحصول على الدرجة الجامعية من جامعات عالمية مرموقة، وقد كان من حظي أن تحدثت مع أحد هؤلاء الطلاب في جامعة ميريلاند الأميركية الصيف الماضي، الذي ابتعثته «سابك» لدراسة الهندسة الكيميائية ليعود واحدا من كوادرها. قال الطالب ذو العشرين عاما إن هدفه الآن الحصول على تحصيل دراسي عال يؤهله لطلب تمديد بعثته من «سابك» للحصول على الماجستير والدكتوراه، لأن «سابك» مطلعة على تقارير أدائه أولا بأول حرصا على أن لا يقل تحصيله العلمي عن معاييرها المطلوبة في الباحثين.

هذا طبيعي، لأن شركة مثل «سابك» لن تربط اسمها إلا بذوي الطاقات البحثية المتميزة، كالبروفسور سعيد الزهراني، أستاذ الهندسة الكيميائية في جامعة الملك سعود، المشرف على «كرسي سابك لأبحاث البوليمرات» في الجامعة.. العقل السعودي الفذ، الذي حصل على وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، والدرجة الممتازة، تكريما لإنجازاته وابتكاراته البحثية. البروفسور الزهراني وزملاؤه هم من سيغيرون واقع الدولة من معتمدة على النفط إلى دولة مثل كوريا الجنوبية تنافس في صادراتها الصناعية دولا عالمية.

إن لشركة «سابك» مشاريع بحثية كثيرة مع جامعات سعودية، إلا أن إنجازها الكبير الذي جاء مؤخرا كان بإنشائها مركزا لتطوير التطبيقات البلاستيكية في وادي الرياض للتقنية بجامعة الملك سعود، الوادي الذي أصبح موطنا للتجمعات البحثية الصناعية والطبية في المملكة. والقيمة الكبيرة لهذا المركز ليست كونه مشروعا استثماريا من شركة صناعية في جهة بحثية فقط؛ بل لأنه جاء نتيجة النجاح الكبير لكرسي أبحاث «سابك» الذي أنشأته في جامعة الملك سعود، والذي سجل أوراقا علمية وبراءات اختراع في تقنيات الصناعات البلاستيكية ومعالجتها وتطويرها جعلت من ترقية المشروع من كرسي بحث إلى مركز بحثي مطلبا ملحّا للشركة وللجامعة، وتأكيدا على أن الثروة الحقيقية هي في العقل البشري، وليست في ما تجود به الطبيعة.

أمامنا نماذج عالمية، ليست للاستنساخ بل للقياس عليها، ولدينا في السعودية بنية تحتية لصناعات أساسية: مثل البتروكيماويات، والبلاستيك، والحديد، والصلب.. لنركز على هذه الصناعات ومنتجاتها، فالأماني جميلة، ولكن يجب أن لا تسوقنا إلى أفكار توسعية غير قابلة للتطبيق، تقودنا في النهاية إلى اليأس وفقد الثقة بالنفس، فأرقام صادرات كوريا الجنوبية من صناعاتها المحلية واقع ملموس.

كما أنه من الأهمية تعميم حالة جامعة الملك سعود على كل مؤسسات التعليم العالي ومراكز الأبحاث في المملكة، فجرأة الجامعة على كتابة عقد القران بين الصناعة والبحث العلمي في أكثر من سلعة نوعية يجب أن تكون ثقافة عامة لكل الجامعات، ومن يحمل هذه الثقافة ويعممها يجب أن يكون مؤمنا بها، جريئا في طرحها، وقادرا على تنفيذها.

* أكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود

[email protected]