الأمن المائي في استراتيجيات الحكومة العراقية القادمة

TT

تزداد كل يوم مشكلة أو أزمة المياه تفاقما، وتعاني أغلب دول العالم من نقص حاد في منسوب المياه وتضاؤل حصة كل فرد أو شخص من كميات المياه المحدودة، وتتخوف دول وحكومات العالم اليوم من قيام حرب إقليمية أو دولية لا تحمد عقباها بسبب المياه والنزاع على مصادر المياه ومنابع الأنهار، لذلك أضحت قضية المياه تأخذ طابعا عالميا، وأصبحت القناعة كاملة بأن المياه هي المشكلة الأولى التي ستواجه أجيالنا القادمة، ومن الطبيعي أن من يملك الماء سوف يملك النفوذ ويهدد السلام مع تناقص العرض وتزايد الطلب على هذا العنصر. إن حرب المياه بين الدول المتشاطئة هي حرب حقيقية وسوف تستمر وتحدث لا محال من ذلك، وليس هناك حل جاهز، وتدويل هذه المشكلة أقرب الحلول وأنسبها، وإن لم تأت بالمستوى المطلوب والنتائج المطلوبة.. وتكشف حروب المياه عن أنيابها والأخطار الناجمة عن الصراعات القادمة، ففي المنتدى العالمي للمياه الذي عُقد في إسطنبول في مارس (آذار) 2009، الذي بيّن أن في العالم 260 حوضا للمياه تتقاسمها دولتان وأكثر، ويعيش حولها 40% من سكان العالم. وهناك مئات من الأحواض الجوفية المشتركة. وعلى سبيل المثال أربع عشرة دولة تتقاسم نهر الدانوب الأوروبي، وإحدى عشرة دولة تشترك في كل من نهري النيل والنيجر، وتسع دول تشترك في الأمازون، وثلاث دول في دجلة والفرات، ومثلها لنهر الأردن.

ونشأت الخلافات بين الدول المتشاركة على المنابع والأنهار منذ فترة طويلة، ووصلت إلى مرحلة الصراعات والأزمات الحادة، وتزداد حدتها يوما بعد يوم، وهي تتمثل في التوزيع والحصص، ونشأت عنها خلافات سياسية كما بين تركيا والعراق، وإسرائيل ولبنان وسورية والأردن، ومصر والسودان من جهة، ودول منابع النيل من جهة ثانية، ولم تحسم عشرات المعاهدات هذه الخلافات، إذ لم تتوقف النزاعات بعد إبرام 145 معاهدة. ويعود السبب في الدرجة الأولى إلى أسباب سياسية، وغياب التعاون بين هذه الدول، إضافة إلى ما ترسّب تاريخيا من طمي ومن تغييرات في النظام السياسي. ولموازين القوى أيضا بين الأطراف المختلفة، دور رئيسي في ترتيب النزاعات وتصعيدها أو التخفيف منها، ولو خصصنا العراق بالذكر؛ بسبب ضعفه في الوقت الحالي وقوة الآخرين، ينبغي على الحكومة العراقية الاتحادية في بغداد أن تفكر تفكيرا استراتيجيا بخطط بديلة، وهذا يتطلب تكثيف الجهود العلمية ذات العلاقة بالموضوع..

ولا شك أن سياسة صدام حسين تجاه جيران العراق من العرب وغير العرب، وانتهاجه سياسة عشوائية، هي الأخرى عوامل ساهمت في ضعف موقف العراق من هذه الحروب المحتملة. وكون العراق هو الحلقة الأضعف في هذه الحرب إنما يعود بالتحليل الأخير إلى ضعفه عسكريا واقتصاديا وسياسيا وأمنيا، وكل ذلك لا يؤهله للدفاع عن نفسه في هذه الحلقة..

إن انطلاق حصص مائية متفاوتة بين فترة وأخرى من قبل تركيا وإيران وسورية ليس حلا استراتيجيا، وإنما هو حل عليل قابل للانكسار في كل لحظة.

ينبغي على الحكومة أن تفكر تفكيرا استراتيجيا بخطط بديلة تحرر إرادة الشعب العراقي من الارتهان بإرادة الغير، وهذا يتطلب تكثيف الجهود العلمية ذات العلاقة بالموضوع، وما نشرته بعض وكالات الأنباء من أن هناك أكثر من مشروع مطروح من قبل شركات ومؤسسات عالمية لمعالجة هذا الموضوع إنما يدعو إلى التفاؤل، خاصة بعدما تدارس الجانبان التركي والكردي المتمثلان بحكومة إقليم كردستان العراق هذا الموضوع، وعقد الطرفان سلسلة من الاجتماعات المشتركة وحوارا مكثفا بحضور الطرف العراقي لإيجاد آلية مناسبة تنظم نسبة الحصص المائية بين تركيا وإقليم كردستان بحيث تراعى المصالح المشتركة للجانبين..

على أن ذلك لا يحتمل التأجيل أبدا، ويبقى على الدولة العراقية أن تكافح من أجل الحصول على حصتها المائية لإنقاذ الواقع المأساوي لعموم العراق، وذلك كحل سريع يسبق المشاريع الاستراتيجية المأمولة.. ومن دون ذلك سوف تحل أوضاع مأساوية في أجزاء كبيرة من العراق، وتكثر الهجرة إلى المدن وتتسع دائرة البطالة وتتعاظم المشكلات الاجتماعية..

المتتبع لإدارتنا لمشكلة المياه لا بد أن يعلم ويعي تماما أننا مقبلون على كارثة ما لم نتدارك الأمر بسرعة وحكمة. الحلقة تضيق، والطوق يضغط علي أعناقنا..

وأخيرا، لم يبق لنا إلا القول إن الصراع على المياه في الشرق الأوسط ربما يكون سمة المستقبل؛ ذلك أن تحقيق الأمن المائي يعتبر من أهم الأولويات في المرحلة المقبلة، لذلك فإن النزاع على المياه قد يكون من العوامل المضافة إلى العوامل الموجودة المسببة لعدم استقرار المنطقة. إن قضايا المياه سوف تحظى على نحو متزايد باهتمام القيادات السياسية في المنطقة خلال السنوات المقبلة. كما تحدث الكاتب الأميركي (جول كولي) في كتابه حرب المياه؛ حيث قال إن الشرق الأوسط بعد نضوب النفط سوف يشهد حروبا بسبب الصراع على المياه. وهنا نذكر بمقولة بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل عام 1955 الذي قال بالحرف الواحد: «إن اليهود يخوضون معركة مع العرب من أجل المياه».

وعلى أية حال، فإن الصراع إذا لم يوجد أو توجد أسبابه، فإن الدول ذات المصالح الخاصة تسعى إلى خلق ذلك الصراع، وبأي أسلوب وبأي ثمن. ومن أهم الأمور التي يتم التركيز عليها الآن، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، هو الصراع على المياه، والمسرح يتم إعداده منذ زمن ليس بالقصير لمثل هذا الصراع، عن طريق الحديث عن أزمة المياه في الشرق الأوسط، وقرن ذلك بأمور حسية مثل تعطيش بعض الدول مثل سورية والعراق عن طريق بناء سدود ضخمة في تركيا على منابع نهر الفرات، ومعركة العراق القادمة على المياه مع تركيا وإيران، وربما سورية أيضا..