الإرهاب .. جنون البشر

TT

يأتي صوت سيلفيو بيرلسكوني، رئيس وزراء ايطاليا، من برلين مهاجماً للإسلام أمام الصحافيين الايطاليين المرافقين له في زيارته الرسمية لالمانيا، منسجماً مع توجه غربي يريد ان يجعل من الاسلام عدواً له بعد ان فقد الغرب عدوه اللدود الشيوعية بسقوط الاتحاد السوفيتي من الخارطة العالمية.

هذا العدوان على الاسلام بالتطاول عليه، لا يلغيه الاعتذار الذي قدمه سيلفيو بيرلسكوني عن قوله بأن الحضارة الغربية تتفوق على الاسلام لما لها من قيم ومثل مفقودة فيه، وهذا يجعل الغرب المتحضر واثقاً بنفسه عند وضع استراتيجية محاربة الارهاب في ثوبه الاسلامي وزيه العربي. والاعتذار غير مقبول لأنه غير صادق، فصاحب الهجوم والاعتذار، سبق له مهاجمة الاسلام قبل بضعة اشهر في اثناء حملته الانتخابية التي وصلت به الى رئاسة الوزارة الايطالية بقوله ان الاسلام فكر غريب عن الحضارة الغربية المعاصرة، وربط القول بالعمل بتأييده المطلق للمظاهرات الصاخبة في شمال ايطاليا، ويقال انه احد صناعها بماله، ضد عمدة مدينة لودي الذي اهدى الجالية الاسلامية بها قطعة ارض لاقامة مسجد عليها. وهذا يفرض التساؤل: هل الاعتذار الذي قدمه سيلفيو بيرلسكوني يشمل تطاوله بالقول على الاسلام للمرتين؟ مرة في داخل بلده، ومرة اخرى من على المسرح الدولي. والحقيقة ان الاعتذار مصطنع، بدليل انه لم يصدر من لدنه ليعكس قناعته بالخطأ الذي ارتكبه في حق الاسلام، وانما اجبرته عليه مجموعة الوحدة الاوروبية الحريصة على علاقاتها مع العالم الاسلامي.

جاءت ردود الفعل من داخل ايطاليا على تصريحات بيرلسكوني في شكل موجات من الغضب عند الرأي العام الايطالي، وعبر عن هذا الغضب بوضوح زعيم المعارضة في البرلمان فرانشيسكو روتيلي بقوله: كنا وما زلنا نعاني في اوروبا من جنون البقر، وجاء الارهاب بعدوانه الاخير على امريكا ليفرض علينا المعاناة من جنون البشر. واكد هذا القول عن جنون البشر فابيو موسى، نائب رئيس مجلس النواب الايطالي، بقوله ان ما اثاره بيرلسكوني من اراء تؤدي الى التصادم بين الحضارات يمثل غاية في الجنون لأن الاستفزاز بالوصف للحضارات والتفرقة بينها بالاعلى والادنى يؤدي حتماً الى الصدام المسلح بين الامم، ويجعل الانسان في كل مكان يواجه مواقف خطيرة للغاية بالرعب من الحرب الذي يفوق في حجمه الرعب من الارهاب.

وتحدث عن هذا الاستفزاز بتصعيد الصراع بين الحضارات على لسان بيرلسكوني واثاره المدمرة للحياة على الأرض، اموس لوتساتو رئيس الجالية اليهودية في ايطاليا بقوله ان الحضارة الأوروبية لا تتفوق على الاسلام او على غيرها من الحضارات الاخرى، فالتاريخ البشري يثبت بان التفاعل بين الحضارات بالاخذ والعطاء في ما بينها اثرى الفكر الانساني الذي مثل دعائم البناء للتفكير الانساني المعاصر الذي يساوي بين الناس مهما اختلف المكان أو تغير الزمان. وأكد اموس لوتساتو ان الحضارة الغربية لم يكن في استطاعتها الوصول الى كثير من انجازاتها بدون الاسلام وطروحاته الفكرية وبدون اسهامات حضارة العرب بالعطاء من فكرها الذاتي الذي قدمه علماء العرب في كل فروع المعرفة او بالنقل من الفلسفة اليونانية من خلال نشاطهم في حركة الترجمة التي كانت سبباً في معرفة اوروبا والحضارة الغربية للفكر اليوناني القديم. وطالب بتخلي بيرلسكوني عن فكرته المبنية على عقدة الأفضل بين الحضارات لما تتضمنه من خطر مستطير بترتيب الحضارات على اساس الاعلى والأدنى لأن ذلك يدفع بالبشرية الى العنصرية بكل الادران المترتبة عليها، ومنها الارهاب، الذي وصفه رئيس المعارضة في البرلمان فرانشيسكو روتيلي بجنون البشر.

لا يقتصر جنون البشر الذي حدثنا عنه زعيم المعارضة في البرلمان الايطالي على الارهابيين الذين قاموا بالعدوان على امريكا مؤخراً وقتل الابرياء من الناس بدون ذنب او باعتداءاتهم السابقة في اكثر من مكان على الابرياء من الناس أو باعتداءاتهم المحتملة في المستقبل دون ادنى مراعاة لحياة الانسان، وانما يمتد هذا الجنون للبشر ليشمل ردود الفعل عليه التي جعلت الدنيا تقف اليوم على حافة حرب عالمية ضد الارهاب بتحالف أكثر من مائة دولة لضرب افغانستان باعتبارها الدولة المضيفة للارهاب دون ان يلتفت احد اليها كوطن لانسان مسحوق بشظف العيش الذي يفرض المعاناة اليومية على الاطفال والرجال والنساء والشيوخ، أو ارض وطن محروقة ومدمرة بحروب اهلية وحروب تدخل طوال الثلاث والعشرين سنة الماضية، وبالصراعات على الحكم والسلطة بين طالبان، والتحالف الشمالي وغيرهما من فرق تتطلع الى الحكم في كابل، ولا تزال هذه الصراعات مستمرة على أرض افغانستان منذ ست سنوات ماضية، ولا يزال الشعب الافغاني يعاني منها الامرين، وزاد من هذه المعاناة، مواجهته لخطر الموت على يد اعظم قوة عسكرية لم يعرف لها مثيل في التاريخ الانساني، لعقابه على جريمة لم يرتكبها، ولا تربطه صلة بالقائمين بها. ان براءة الشعب الافغاني من الارهاب قضية واضحة، سواء جُرم اسامة بن لادن بارتكابها او برئ منها، وسواء ثبت على نظام طالبان استضافة الارهاب أو استطاع ان ينفي عن نفسه تهمة احتضانه للارهاب بتقديم المأوى له والتدريب لكوادره لأن الشعب الافغاني لا يمتلك الحق في التأييد أو الاعتراض على ما يحدث فوق أرض وطنه.

هذا الخطر الذي يلتف حول عنق الشعب الافغاني دفع الدكتور بول كيندي، استاذ التاريخ في جامعة ييل الامريكية، الى المطالبة باعتماد استراتيجية دولية تلاحق الارهاب دون المساس بالشعوب التي تستضيف دولها الارهابيين بارادتها أو رغم انفها، واقترح ان يتم ذلك من خلال الامم المتحدة أو المنظمات التابعة لها، وهذا الرأي يتفق مع ما تضمنه مقالي الاسبوع الماضي من ضرورة انشاء منظمة متخصصة لمكافحة الارهاب. ويبرر الدكتور بول كيندي رأيه بأن امريكا تنفق في زمن السلم على ميزانية دفاعها ما يوازي نسبة 36% من ميزانيات الدفاع في العالم، فإن قامت الحرب تضاعف هذا المبلغ المعتمد للدفاع الى اضعاف مضاعفة، وفي ذلك ارهاق للاقتصاد الامريكي وسوق الشباب من ابناء الوطن الأمريكي الى محاربة العدو الارهابي المجهول المكان لانتشاره في كل الارض.

يقرر الدكتور بول كيندي بأن استراتيجية مكافحة الارهاب الدولي بملاحقته عبر الأمم المتحدة ومنظماتها، ستحقق انتصاراً ماحقاً عليه كما حققت امريكا باستراتيجية الحرب الباردة الانتصار الساحق على الاتحاد السوفيتي وحلفائه الذين كانوا يشكلون في ذلك الزمان ارهابا دوليا على العالم الغربي، وأكد في نهاية مقالته المنشورة بمجلة «تايم» الامريكية انه لا يليق بأمريكا الحائز ابناؤها على نسبة 70% من جائزة نوبل في العلوم والاداب والسلام، الصاق الارهاب بالديانة الاسلامية وهي في التاريخ تمثل ومضة مشرقة في الفكر الانساني.

وسارعت الكاتبة الامريكية كارين ارمسترونج، مؤلفة كتاب «موجز التاريخ الاسلامي»، الى الدفاع لرفع تهمة الارهاب عن الاسلام، فأعلنت في مقالها المنشور بمجلة «نيوزويك» ان عدد المسلمين على الأرض يصل الى الف ومائتي مليون نسمة، ولا يعقل ان يكون هذا العدد الضخم من الارهابيين، أو اصحاب حضارة تقل في مكانتها عن الحضارة الغربية، خصوصاً ان الاسلام من الناحية اللفظية في اللغة العربية مشتق من السلام، وان كلمة الجهاد ليست الحرب المقدسة كما يشاع في الفكر الغربي المغرض، لأن الجهاد في معانيه الحقيقية يرمي الى مجاهدة النفس، واستشهدت في ذلك بقول الرسول (ص) لاصحابه بعد عودتهم من احدى المعارك «لقد عدنا من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر»، بالبعد عن المعاصي والامتناع عن الخطايا لبناء المجتمع السوي الذي تسوده العدالة المرتكزة على الايمان بالله واتباع احكامه. وانتهت الى ان من الاخطاء الفاحشة اعتبار اسامة بن لادن الارهابي ممثلاً للاسلام، وجيمس كروب سفاح نيويورك ممثلاً للمسيحية، وباروخ جولدشتاين قاتل المصلين المسلمين في الحرم الابراهيمي ممثلا لليهودية، وطالبت بمعرفة الاسباب الحقيقية للارهاب حتى تتم ملاحقته.

تعمدت ان اترك الاصوات العاقلة في العالم تقول كلمتها لتبرئة الاسلام والعرب من الارهاب، ولدحض ما قاله سيلفيو بيرلسكوني عن تدني الاسلام عن الحضارة الغربية المعاصرة.