الوثائق الأميركية: عليَّ وعلى أصدقائي وأعدائي!

TT

بعد الحرب العالمية الثانية، سارت الديمقراطيات الغربية مسافة جريئة نحو الشفافية. بدأت تنشر سنويا وثائقها الرسمية القديمة. كان الهدف إطلاع الرأي العام. المؤرخين. علماء الاجتماع، على مزيد من حقائق السياسة والعلاقات الدولية.

إلى الآن، يحتفظ النظام العربي «بهدومه». فهو نظام مؤدب. مهذب. لا يظهر عاريا. لا يمارس «الاستربتيز» فوق الركبة. لا ينشر وثائق (غسيله الداخلي) علنا. ولو استطاع لأسدل على وجهه حجابا، خوفا على نفسه من «فتنة» تقليد الغرب، في السفور والشفافية.

لماذا كل هذا الأدب والحياء؟! لأن طول البقاء يجعل الحاضر استمرارا للماضي. النظام الذي عاش دهرا، لا يستطيع أن ينطق كفرا. فهو مسؤول عن هذا الماضي. وبالتالي، لا يريد أن يتحمل أمام الرأي العام مسؤولية الأخطاء التي قد يكون وقع فيها، قبل ثلاثين أو خمسين سنة. النظام الغربي لا يشعر بحرج كبير، عندما ينشر وثائق الدولة. لأن الحكومات تتغير. وبالتالي، فالسياسات تتبدل. حكومات اليوم ليست بمسؤولة عن الأخطاء التي ارتكبتها حكومات أمس.

نتائج الكتمان العربي كارثية: تجهيل الأجيال العربية الجديدة بماض قريب، يضاف إلى تضليلها بالرواية المتزمتة لماض بعيد. الصحافيون. وعلماء التاريخ والاجتماع محرومون من المعرفة والمعلومات. فهم لا يستطيعون تسجيل التاريخ، وتقديمه بحقائقه الصحيحة، إلى الأجيال الجديدة والقادمة، إلا إذا كتبوه لمصلحة الحاضر. لمصلحة قوى الوضع الراهن. من هنا فالأجيال تبقى مغسولة الذاكرة، عن ماضيها الحديث. ومضللة عن تراثها القديم.

مع ذلك، حدثت استثناءات نادرة، عندما تعرضت استمرارية النظام العربي إلى انكسارات حادة. تسربت معلومات ضئيلة جدا من المفاصل المثقوبة: نُشرت مذكرات لبعض الساسة. لكنها لم تكن مستكملة، لأنها غير محررة فنيا، بما يجعلها خصبة بالمعلومات. بالحركة. بالتشويق المغري بالقراءة.

التمعت ومضات محكومة بالانتقام والتشفي. نشر الرئيس جمال عبد الناصر (1952) وثائق مالية مدفوعة إلى بعض كبار الصحافيين، في العهد السابق. فعل ذلك انقلاب السودان. نُشرت وثائق مماثلة لأموال، قيل إن صحافيين عربا تلقوها، للتغطية على فضيحة نقل يهود الفلاشا (الإثيوبيين) إلى إسرائيل، عبر السودان، في عهد الرئيس الراحل جعفر نميري.

كان قادة الانقلاب العراقي (1958) من الجرأة، بحيث نشروا بعض الوثائق التي أدانت زعماء سوريين بقبض أموال من النظام السابق، لإعداد انقلاب ضد الدكتاتور أديب الشيشكلي (1951/1954). وأدت الوثائق إلى قبول الرئيس عبد الناصر استقالة صبري العسيلي أحد نوابه السوريين.

ولعل قراء «الشرق الأوسط» المداومين يذكرون أني نشرت في هذه الصفحة، في التسعينات، تفاصيل عن تمويل مشروع الانقلاب. وأدى النشر إلى رد السياسي السوري الكبير معروف الدواليبي بالنفي. ثم اعترف، ببسالة شجاعة، عندما واجهته بـ «مستمسكات» الدكتور فاضل الجمالي رئيس وزراء العراق الذي فاوضه السوريون المعارضون للشيشكلي.

بل حاولت، منذ مدة، استنطاق عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري «المنشق»، عن معلومات وثائقية. فاعتذر وفاءً منه للرئيس الراحل حافظ الأسد. ليس لي أن أضيف هنا، سوى القول إن الأسد كان شديد الوفاء لأصدقائه ومعاونيه، بقدر ما كان شديد الوطأة على خصومه وأعدائه.

أروي كل ذلك، بمناسبة نشر الاسترالي جوليان أسانج وثائق «ويكيليكس» الأميركية. يذكرني أسانج بنزار نيوف. فقد أثار هذا السوري المغامر شغف العالم بوثائق سورية هربها معه إلى الخارج. وأكشف اليوم سرا. أقول إن هذه الوثائق صحيحة. وهي منتزعة من أرشيف المخابرات العسكرية السورية. وأضيف أن نيوف لم يكن قط صحافيا، كما ادعى. كان، ببساطة، موظفا في الأرشيف، في مقر المخابرات العسكرية.

لماذا لم ينشر «ويكيليكس» السوري وثائقه؟! لأنه كان متخلفا - كأمثالي أنا - تقنيا. لم يكتشف الإنترنت. لم يكن الاسترالي أسانج قد ظهر، ليقنعه بالنشر في موقعه على الإنترنت، كما نشر مئات الوثائق السرية التي تلقاها شركاء له، في دول كثيرة.

إلى الآن، أسانج أحسن حظا من نيوف. نعم، ملاحق. لكن ما زال حيا. أما نيوف فقد قرأ الأرشيف. فاهتز ضميره. أو راوده طمع بربح. سرب الوثائق. هرب. عرف المنافي. ثم فجأة. صمت. اختفى. ودائرة الضوء الإعلامي ملولة. تحولت عنه بسرعة. واختفت معه الوثائق المهمة. ربما حصلت عليها دولة. أو جهة. لست أدري.

وثائق «ويكيليكس» صحيحة. لكنها ضحلة. بليدة. لا إبهار فيها. كتبها سفراء ودبلوماسيون عاديون. مهرة في قوة الملاحظة الشخصية. متخلفون - عن أجدادهم الإنجليز القدامى - في ذكاء وعمق التحليل السياسي.

لا أؤمن بنظرية المؤامرة. لكن يبدو أن الوثائق اختيرت بعناية. كانت انتقائية لخدمة أميركا، بقدر ما كانت لإحراجها! كانت «فشة خلق». عليَّ وعلى أصدقائي وأعدائي. الدلائل توحي بتسريب مفتعل ومتعمد: نُشرت وثائق الأطراف إلى مركز القرار. لم تُنشر وثائق المركز إلى السفارات في عواصم العالم، كي لا يتم فضح توجهات السياسة الأميركية. تم نقل الوثائق المسربة من مواقع الـ«توب سيكرت» التي يصعب اختراقها، إلى مواقع أقل سرية يسهل اختراقها. حتى «الخبير» المخابراتي فلاديمير بوتين يقول: «الوثائق نشرت لغرض سياسي مبهم».

ما هو هذا الغرض المبهم؟ لعل إدارة أوباما استهدفت تحسين فرص الرئيس الأسود الانتخابية، بفضح سياسات وتوجهات الحزب الجمهوري والرئيس السابق دابليو بوش، أمام الناخبين الأميركيين والعالم الخارجي. بل ربما إضعاف فرص الوزيرة هيلاري الانتخابية أيضا أمام رئيس ضعيف. فقد ظهرت عاجزة عن حماية وثائق وزارتها.

قدمت الوثائق خدمة كبيرة للإيرانيين والإسرائيليين. لم يتم النيل شخصيا من زعمائهم، فيما استفاد أيضا «عرب إيران» أعداء النظام العربي. غير أن السخف وصل ببعض المحللين العرب إلى لوم النظام الخليجي. لكن ماذا يفعل النظام الخليجي أمام الكثافة السكانية الإيرانية (75 مليونا)؟

قام هذا النظام بواجبه الوطني والقومي. عزز سلاح الطيران، لإبادة أي إنزال أو اختراق إيراني بري. ومارس مصلحته السياسية، بتشجيع حليفته أميركا على التخلص من المشروع النووي الإيراني. ألم يكن ذلك حائلا دون تمكين إسرائيل وإيران، من اجتثاث الحياة الإنسانية، في منطقة تعج بكثافة سكانية هائلة. على أية حال، سواء كان التسريب عبثيا، أو مقصودا، فالعالم الافتراضي يتوسع نحو المجهول، تماما كتوسع الفضاء الكوني. الإنترنت يحرق المراحل. لم نعد بحاجة إلى الانتظار 35 سنة، للاطلاع على وثائق بالية قديمة.

انتهى احتكار النظام للإعلام. لكن ديمقراطية الإنترنت تلغي الثقة بين أهل المساومة والتسوية. نحن أمام انتقال القرار والاتفاق من غرف الردهات والكواليس، إلى المشهد الخارجي. لم يعد قرار صيانة العالم أو تدميره بأيدي المخرجين. بات بأيدي أبطال المسرح المتملقين، بغوغائية شعبوية، لجمهور فوضوي. جمهور خطر على الأمن والاستقرار، في هذا العالم الذي بات شقيا بثوراته التقنية المتلاحقة. كم أنا سعيد بجهاز إنترنت. أضعه أمامي. أدفع اشتراكه. ولا أعرف استعماله!