كرة القدم.. وكرة الأرض

TT

القرضاوي اعتبر فوز قطر بتنظيم المونديال نصرا للمسلمين.. ونجيب محفوظ كان يراها فرصة للانتصار على الإنجليز.. فما هو لغز الكرة؟*

فوز قطر بتنظيم عرس العالم الكروي في 2022، كان هو الخبر الأهم في العالم، متقدما على تداعيات وثائق «ويكيليكس».

روسيا فازت بتنظيم المونديال 2018، وقطر تلتها في الحفلة الثانية.

خبر الفوز لف «الكرة» الأرضية، لأن شكل الكرة الأرضية اتخذ ملامح «المستديرة الساحرة» كما يحب عشاق اللعبة أن يطلقوا عليها تحببا.

يكفي لمعرفة ضخامة الإنجاز أن قطر أول دولة عربية ومسلمة وشرق أوسطية تحظى باستضافة أهم مهرجان عالمي منذ انطلاق البطولة الأولى 1930، ثم عودة هذه الاحتفالية الكبرى كل 4 سنوات.

مليارات ستصرف على تجهيز البنية التحتية والملاعب، ومليارات أخرى ستجنى، دوامة من التأثيرات الاجتماعية ستصيب أناس الخليج العربي، على وجه الخصوص، بعد أن يحل الموعد عقب 12 عاما من الآن، إن لم تكن بوادرها بدأت من هذه اللحظة.

زعماء العرب بادروا لتهنئة قطر بهذا الإنجاز المفرح، في مقدمتهم العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير سلطان، والرئيس المصري حسني مبارك، وغيرهم من العرب. كما زعماء دول آخرون، وشخصيات عامة من العالم.

الخاسرون مثل بريطانيا وأميركا، غضبوا، ولم يتقبلوا الفوز القطري والروسي بروح رياضية، على اعتبار أن منح روسيا بوتين المستبدة، ودولة عربية صحراوية، يعتبر قدحا في مقام الدول المتحضرة والحرة.

في قطر احتفالات حاشدة، وحالة انفعال وطني، لدى أهل البلاد أو المقيمين فيها، حتى وصل الأمر بأبرز شيخ إسلامي وأحد موجهي تيار الصحوة في العالم السني، يوسف القرضاوي، أن يعتبر فوز قطر بتنظيم المونديال «نصرا للمسلمين»!

ربما استبدت الحماسة بالشيخ الثمانيني، بسبب أن الخاسر في جولة الترشيحات كانت هي أميركا و«تابعتها» بريطانيا، ولذلك لم يوفر الشيخ «الأعداء» من سهامه، وصب هذا الفوز في مفرزة الصراع بين الإسلام والغرب.

استمتعت بقراءة مسوغات الشيخ التي ساقها حتى يبرر فرحه بهذا الإنجاز الرياضي و«الاحتفالي» بفوز قطر، لهذا المونديال الذي ستفد إليه جماهير العالم بكل عاداتها وصخبها و«مرحها» المعروف، للدرجة التي جعلت الشيخ الكبير يتسمر أمام التلفزيون مترقبا إعلان رئيس الفيفا، بلاتر، فوز دولة قطر بالتنظيم.

مما جاء في خطبة الشيخ، من على منبر الجمعة الماضية، اعتباره فوز قطر: «صفعة في وجه الولايات المتحدة» مستدلا باعتراض الرئيس الأميركي باراك أوباما على نتائج التصويت الحر، ووصف تصريحاته بأنها «بالغة السوء».

وقال: «إن امتعاض أوباما من فوز قطر يكشف أن أميركا تريد أن تحتكر كل شيء وتبعد العرب والمسلمين عن كافة ميادين الحياة العسكرية والاقتصادية وحتى الرياضية». وأشاد القرضاوي بجهود قطر التي تكللت بانتزاع الملف رغم المنافسة الشرسة، مضيفا أن الشرق الأوسط يجب أن ينتفض على التهميش: «لأنه منبع الحضارات ومهبط الرسالات». حسبما جاء في خبر «العربية نت».

يبدو أن الشيخ أدرك إفراطه في الحماسة المونديالية، فأراد وضع الأمور في نصاب الوقار من جديد، حيث استدرك، حسب نص الخبر الآنف، بأن الكرة ظلت خارج اهتماماته، لأن عشاقها كثيرون، وعلى العالِم أن يولي وجهه إلى أمور غير مطروقة، ليكمل وعي الناس، لكن: «طموح قطر وإصرارها على التحدي دفعني لنصرة الملف، ودعوت على أميركا بالسقوط».

لا ندري هل كانت الحماسة لدى الشيخ ستبرد قليلا لو أن المنافس لقطر على الاستضافة كان دولا مثل فنزويلا أو الصين أو غيرها من الدول التي ربما لا يكن الشيخ لها هذا العداء السياسي الفكري المزمن..

في تقديري، لا يعاب الشيخ على هذا الحماس، بل هو حماس طبيعي يشعر به أي عربي أو حتى مسلم تجاه فوز دولة من المحيط العربي المسلم، لأول مرة، بشرف تنظيم هذا المونديال، بل وأي إنسان تجاه فريق وطنه أو ناديه، أو حتى فريق يتعاطف معه لأسباب ذوقية بحتة.

ليس معيبا أن يشجع شخص مثقف أو حتى شيخ وقور قدم نفسه للناس بشكل جاد، كرة القدم، أو يتحمس لفريق دولته أو حتى فريق ما من فرق الدوري، هذا أمر طبيعي، مثله مثل الاستمتاع بالموسيقى أو رؤية الورود والطبيعة الجميلة، لا يحتاج الأمر إلى «مرافعة» عصماء.

كلام الشيخ القرضاوي ذكرني بكتاب لطيف قرأته هذه الأيام عن علاقة المثقفين بكرة القدم، وهي عكس ما يعتقد كثيرون، علاقة وطيدة، وتاريخية أيضا.

الكتاب بعنوان «المثقفون وكرة القدم». كتبه مؤلف مصري اسمه أشرف عبد الشافي، وذكر فيه فقرة حلوة عن الروائي الأشهر في العالم العربي، نجيب محفوظ، حيث كان الأديب «النوبلي» المصري من المولعين بكرة القدم منذ صغره، بل وكان مشروع لاعب كرة فنان ومراوغ ماهر تشهد له حارة العباسية في القاهرة، بل وقاد فريق حواري باسم «قلب الأسد» وتقلد شارة الكابتن فيه، حيث ظل فيه إلى فترته الجامعية لينصرف نهائيا للأدب، ونقل عنه هذا النص الغني والشفاف وهو يسترجع ذكريات الصبا مع كرة القدم: «علاقتي بالكرة ترجع إلى الفترة التي انتقلنا فيها إلى العباسية، كنت وقت ذاك قد التحقت بالمدرسة الابتدائية، واصطحبني شقيقي ذات يوم لزيارة صديق حميم من عائلة الديواني، وهي عائلة معروفة، ومن أبنائها أطباء ومستشارون، كان بيت هذا الصديق يطل على محطة سكة الحديد، وعندما فرغنا من تناول الغداء اقترح أن يصطحبنا لمشاهدة مباراة كرة القدم بين فريق مصري وآخر إنجليزي، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما فاز الفريق المصري، فقد كنت أعتقد حتى ذلك الوقت أن الإنجليز لا يهزمون حتى في الرياضة».

ويذكر عبد الشافي في كتابه هذا أيضا قصة لطيفة عن الشاعر العربي الشهير محمود درويش، قصة لا تقل دلالة، حيث كان الشاعر المثير والعميق، مولعا بكرة القدم، ويحكي الشاعر المغربي سعد سرحان أن محمود درويش في إحدى ندواته الشعرية بمدينة فاس، حين انتهت المقدمة الاحتفائية التي ألقتها كاتبة بالغت في مديح الشاعر، فما كان من درويش حين تحدث إلى الحضور إلا أن تعجب، بعد شكرهم على المجيء، من حضورهم أمسية شعرية رغم وجود مباراة كانت تجري في نفس الوقت بين فرنسا وإسبانيا، ثم أضاف مداعبا: «أنا من جهتي أفضل متابعة المباراة حتى لو كان من سيحيي الأمسية هو المتنبي!».

تخيل أسماء مثل ألبير كامو، وباولو كويلو، وأمبرتو إيكو، وتي إس إليوت، كانوا من عشاق الكرة، بل وبعضهم، مثل كامو، كانوا مشاريع لاعبين مهرة!

الشاعر الحداثي الشهير إليوت قال: «أغبياء هم الذين يكرهون كرة القدم». بل ووصل به الحال إلى أن قال، كما يذكر صاحب الكتاب: «كرة القدم هي العنصر الرئيسي في الثقافة المعاصرة».

كتبت أشياء كثيرة عن «لغز» هذا الولع العالمي بكرة القدم، من زاويا سياسية واجتماعية ونفسية، ورأى البعض أن الحكومات تتعمد إلهاء الشعوب بكرة القدم حتى لا تتفرغ لإزعاجها، وهذا رأي كثير من المثقفين وبعض الناس في العالم العربي تجاه انشغال الناس بمباريات «الديربي» المحلية بين بعض الفرق، لكن يبدو أن هذا التحليل غير كافٍ في تفسير وجود هذا الولع العالمي في كل مكان، وعند دول لا تعاني من الدكتاتورية أو القمع مثل إسبانيا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا... وغيرها من دول العالم الأول. وذكر الكاتب مقالات ذكية بهذا الصدد، للدكتور عبد المنعم سعيد، المفكر السياسي الذي نقرأه في هذه الجريدة كل يوم أربعاء.

الأمر أعقد من تحويله إلى مادة سجالية سياسية للمعارضة العربية، البعض فسر انفجارات الفرح التي أصابت الشارع المصري، مثلا، عقب فوز فريقها القومي ببطولة أفريقيا، وانتشار أعلام الوطن في كل مكان بالعطش إلى انتصار وطني بعد «تراجع الدور المصري»، حسب العبارات المكررة مؤخرا، لكن يبدو أن في هذا تسييسا مبالغا فيه لمشاعر «عفوية» تحدث لدى مجتمعات متباينة في العالم، لا يمكن تفسير تشجيعها الحماسي لفريقها القومي بهذا السبب.

كرة القدم فعلا أكبر من مجرد «جلد منفوخ» يجري خلفها مجموعة من المجانين.

إنها لغة عالمية، وسحر، ومال، وشهرة، وفرح، ودموع، وتعصب، وترفيه، وملهاة، و«بيزنس» وسياسة...

أما لماذا صارت هكذا، وما هو سر ولع البشرية بها؟ فسؤال مفتوح لم يغلق بعد.

[email protected]