سنة العراق.. بين الفروسية و«الإذعان»

TT

بعد تمهل، اخترت كلمة الإذعان بدل كلمة «الانبطاح»، التي استخدمها أحد قياديي القائمة العراقية في وصفه لموقف عدد من قياديي قائمته، فرضت ضغوط إقليمية أن يكون وإياهم رفاق مرحلة محددة. ولا أريد الضغط كثيرا على جروح شريحة ابتليت بما ابتليت به.

للحق، لم أجد شبابا «في العراق» أكثر فروسية من شباب سنة عربه، من دون إنكار لوجود آخرين بصفات مماثلة. وكنت أتمنى لو أتاحت الظروف فرصا لظهور قيادة من تحت ركام السقوط، تقودهم إلى خيارات ديمقراطية نشطة، بدل طريق عنف أودى بحياة مئات آلاف الشباب. لكن المؤامرات الخارجية والداخلية حرمتهم من قيادات أصيلة واعية مخلصة. فهذا مجتث، وهذا من أزلام النظام، وهذا متهم بجرائم حرب، وهذا من الأجهزة القمعية.. فدفع هذا الواقع المر الشباب إلى ساحات القتال.

وكانت الطامة الكبرى في ظهور أشخاص ادعوا للأميركيين والنظام الجديد أنهم قادرون على جر المقاومة إلى التفاوض، وبدأوا يتحدثون باسمها «كذبا». وكلما كان يأتي شخص إلى الرئاسة ويدعي مثل هذا التأثير، كنت أقول لهم: «لا تصدقوه».. وأستثني منهم عددا قليلا جدا من غير السياسيين الحاليين.

لسوء حظ العرب السنة أن قسما من السياسيين الذين لبسوا ثوب المقاومة زيفا حصلوا على دعم مالي وسياسي وأمني كبير من الأميركيين والحكومة العراقية وأطراف أخرى، ساعدهم في العبور إلى البرلمان.. فشكلوا واجهات مضطربة أدت في المحصلة إلى إضعاف دور الشريحة التي ينتمون إليها من جانب، وعمقت الانقسام الطائفي من جانب آخر، على الرغم من أن مسؤوليتهم في ذلك قد تكون أقل من مسؤولية الآخرين.

وفي مرحلة الانتخابات الأخيرة حاول أشخاص من العرب السنة الترشح مع قوائم أخرى، فلم تصوت لهم شريحتهم. أما الذين ترشحوا وفق خطاب تعبوي وطني عموما وسني تحديدا، فحصلوا على أصوات كثيرة. وبدأت مسيرة الاضطراب بإطلاق تصريحات متناقضة من أطراف متعددة. فمرة يقول ناطق إن فريق المالكي أقرب إليهم، ويقول آخر إن الأقرب هو ائتلاف الحكيم. ثم يعلنون عدم جدوى الاجتماعات مع المالكي.. وأخيرا ألزموا أنفسهم بعدم المشاركة في حكومة يقودها المالكي، ومنهم من استخدم لغة تخوين من يخرق هذا القرار. وفي وقفة انحدار، انقلب كل شيء رأسا على عقب!

ووسط الضجيج، كانت وتيرة التسريبات ترتفع عن وجود خطوط مائلة لبعض النواب السنة، بعد أن أغوت المناصب والمصالح الشخصية البعض، وتحول المذعنون إلى مشاركين تحت الطلب، فأثروا على تماسك الآخرين. ومع أنه ليس عيبا أن يذعن السياسي لمطالب محددة وظروف قاهرة من أجل بلده، فالعيب أن يكون الإذعان لأسباب شخصية نفعية. فترجيح المصالح الشخصية على مصير أمة يعني الخيانة، خصوصا أولئك الذين خانوا الله وكذبوا على الناس بغطاء ديني غير حزبي. أما الذين أحبطهم فشل الوصول إلى البرلمان من الكتلة الأم، فعليهم التصرف بهدوء، ومراجعة زياراتهم الخارجية ومواقفهم اللاذعة تجاه الحكومة المنتهية، بدل تعميم التخوين.

الانقلابات الحادة في مواقف قيادات البيت الشيعي كانت حاضرة بوضوح أيضا، غير أن إذعاناتهم بقيت محصورة ضمن بيت الطاعة. وهذه نقطة تسجل لهم، حتى لو كانت ضمن إطار طائفي.. فما بال الآخرين؟

وإلى جانب الضعف، لا ينبغي تجاهل مسيرة سياسيين اتخذوا مواقف تسجل لهم. فرئيس البرلمان أسامة النجيفي مثلا، تصرف باستقلالية. وإذا ما تمسك بسمات خطابه الأول، فسيبعث آمالا قوية بتوافر قدرة التأثير في قواعد الحكم. وهناك سياسيون مخلصون من كل الأطياف، عسى أن تساعد جهودهم في بلورة توجهات عملية بأبعاد وطنية.

في ضوء المعطيات المفروضة، أصبحت المشاركة في الحكومة حتمية، ولو لقطع الطريق على الانتهازيين، بعيدا عن الخطوط الحمر، التي لم يحددها طرف دون آخر. فكل قادة الائتلاف الشيعي كانوا من واضعي الخطوط الحمراء في طريق المالكي، قبل أن ينقلبوا على عبد المهدي. أما ما يتعلق بمجلس السياسات، فلا جدوى متوقعة منه، فهو مضيعة للوقت، وتسويف، وهدر لأموال يفترض صرفها على الفقراء.. ومن يتولاه يصبح شريكا في الفشل ولا نصيب له في المنجزات.

إنها مرحلة مراجعة شعبية شاملة، ينبغي أن تؤدي إلى حجب أصوات المستقبل عمن يسعى إلى منصب وينسى هموم شعبه. ومن يعمل لكل العراقيين يستحق الإشادة، بصرف النظر عن لونه.