عود إلى موضوع الدفء والتدفئة

TT

الشتاء وذكريات الشتاء. هذه كلمة أوجهها بصورة خاصة إلى المغتربين في لندن وبقية المدن الأوروبية في هذه الأيام الحامضة التي ارتفعت فيها تكاليف الغاز والكهرباء. كيف تتفادى كلفة التدفئة؟ ذكرني ذلك بزيارتي إلى كربلاء في أيام الخير. باقتراب يوم عاشوراء لم يعد هناك أي سرير شاغر في الفنادق القليلة والصغيرة. حرنا في أمرنا. وصادفت الزيارة أسوأ أيام البرد في شتاء العراق. لم يعد بالإمكان النوم في البساتين والساحات الجرداء التي تصفر فيها ريح البادية القارسة. فكرنا في قضاء الليلة في التجول في الطرق والأزقة، مستلهمين ما جرى لسيدنا، سيد شباب أهل الجنة. ما قطعنا بضعة أمتار في الشارع حتى لفتت نظرنا لوحة «حمام للرجال». ما أروعها من مصادفة. دفعنا درهما للحمامجي ودخلنا. نزعنا ثيابنا وبدأنا في طقوس الاستحمام وغسل الجنابات مما كنا، في الواقع، في أمس الحاجة إليه. ثم استلقينا مع بقية المستحمين على الأرضية الإسمنتية الساخنة ونمنا أهنأ ليلة لم أذق مثلها في العراق. اكتشفت روعة النوم عريانا يحيط بك الماء الساخن في مكان دافئ بخمسين فلسا فقط. والله يزيد الرخص!

كان ذلك في عراق العهد الملكي. أيام الخير. تفتقت قرائح المغتربين في أوروبا عن أسلوب آخر في تفادي كلفة التدفئة. اذهب إلى إحدى المكتبات العامة، وما أكثرها في الدول المتمدنة. اجلس حول طاولة الجرائد والمجلات واقض نهارك في المطالعة. لا ينتهي النهار إلا وتكون قد زدت علما ووفرت مغنما. بيد أن الأزمة الاقتصادية الحالية حدت بمديري المكتبات إلى الاقتصاد في النفقات، ومنها نفقة التدفئة. بدلا من المحافظة على مستوى 25 درجة أخذوا يخفضونها إلى 20. وهو ما لا يعتبره المغترب العربي أو الهندي مريحا أو مقبولا.

غير أنني اكتشفت مكانا مضمون الحرارة للمتسكعين والمستضعفين، وهو الغالري الوطني المطل على ساحة الطرف الأغر. فهذه البناية الضخمة تضم مئات اللوحات الفنية التي يتجاوز ثمن الواحدة منها عشرات الملايين ويعود تاريخها إلى مئات السنين. الحفاظ عليها واجب استراتيجي لبريطانيا، أهم بكثير من تاج الملكة والإمبراطورية ونفط العرب. يتطلب ذلك إحاطتها بجو ثابت من الرطوبة والحرارة والهواء النقي. يجوز أن تنزل أو تصعد الحرارة في قصر باكنغهام ومبنى البرلمان وعشرة داونينغ ستريت، ولكن الويل لمن يسمح بتغيير درجة حرارة الغالري الوطني. هذا ما قلته. إنه المكان المضمون الحرارة. ادخل إليه وتفرج على الصور، أو تظاهر بأنك تتفرج عليها، إذا كنت مواطنا عربيا. ثم اختر لك زاوية في غرفة الإنترنت أو المكتبة أو المطعم أو المقهى، واقض نهارك هانئا مرتاحا ووفر لنفسك كلفة تدفئة بيتك ليوم كامل.

ذكرني قضاء ليلة عاشوراء في حمامات كربلاء بإمكانية مشابهة في لندن. فمن لا يطيق الثقافة والفن، يستطيع أن يحصل على مكان دافئ آخر في المراحيض العامة. يأخذ معه بعض الساندويتشات والشراب وما يطيب له من جرائد وكتب، ويدفع 20 بنسا ويدخل. يغلق الباب وراءه ويجلس على مقعد المرحاض ويقضي نهاره دافئا مرتاحا!