قنبلة السودان الموقوتة

TT

سيخسر السودان مرتين لو أجرى استفتاء الجنوب في موعده في التاسع من الشهر المقبل، من دون حل المشكلات الملتهبة والعالقة. فالاستفتاء، الذي يسير في طريق من اتجاه واحد هو الانفصال، يفترض أن ينهي تاريخا طويلا من الحروب بين الشمال والجنوب، لا أن يكون نواة لحرب أخرى بينهما تكون أشرس وأكثر تكلفة على كل الأصعدة. فما الفائدة من أن يدفع البلد ثمنا باهظا بقبول الاستفتاء والتقسيم، إذا لم يفز بعد ذلك بالسلام والاستقرار؟

حتى الآن، لا تبدو الأمور مبشرة في ظل التوتر المتنامي، والفشل في حل قضية أبيي وفي الاتفاق على ترسيم الحدود، وهي القضية الأهم في تقديري، إضافة إلى المسائل الأخرى العالقة مثل النفط والموارد المائية والديون والمواطنة. ومع هذه المشكلات هناك ضغوط شديدة لكي يجري الاستفتاء في موعده، على أساس أنه يمكن ترحيل المشكلات العالقة وحلها خلال الفترة الانتقالية التي تستمر 6 أشهر تبدأ بعد الاستفتاء وتنتهي في يوليو (تموز) المقبل، وهذه مغامرة محفوفة بالمخاطر. فالمفاوضات اليوم تدور بين طرفين في بلد واحد، وهناك حافز للتوصل إلى حلول إذا كانت المشكلات ستعرقل إجراء الاستفتاء في موعده. أما بعد الاستفتاء والانفصال المتوقع فإن المفاوضات ستكون «عمليا» بين بلدين مستقلين، رغم أن دولة الجنوب يفترض أن تعلن «رسميا» في نهاية الفترة الانتقالية المنصوص عليها في اتفاقية السلام، أي في 11 يوليو 2011. وقتها ستكون المفاوضات أصعب والمشاعر الوطنية على أشدها، خصوصا في الجنوب المنتشي بالانفصال، مما قد يجعل كثيرين يرون أي تنازلات في موضوع الحدود استمرارا «للخضوع» للشمال. أما إذا أدت المشكلات العالقة إلى إشعال حرب، فإنها ستكون حتما مختلفة عن كل ما سبقها من جولات. فالشمال والجنوب تسلحا جيدا، خصوصا الجنوب الذي أنفق الكثير من أموال النفط في صفقات السلاح وتعزيز قدرات قواته.

الأخطر من ذلك أن الطرفين يخططان لتصدير المشكلات والحروب عبر الحدود إذا تأزمت علاقاتهما. فالخرطوم تتهم حكومة الجنوب بأنها تسعى لاستقطاب حركات مسلحة في دارفور لتأجيج الصراع هناك إذا اندلعت الحرب بين الشمال والجنوب، بشكل مباشر أو بالوكالة عبر أطراف أخرى. ووجه مسؤولون في الحكومة السودانية تحذيرات إلى حكومة الجنوب، مشيرين إلى انتقال مني أركو مناوي الذي يتزعم فصيلا من حركة تحرير السودان، إلى جوبا ونقله مقاتلين من جماعته إلى الجنوب استعدادا لاستئناف الحرب في دارفور. ورغم أن الجنوب ينفي تقديم أي دعم لفصيل مناوي أو أن يكون سيسمح له بالانطلاق من الجنوب لشن معارك في دارفور، فإن الكتابة واضحة على الجدران، كما يقولون. فحركة العدل والمساواة الدارفورية تتحرك هي الأخرى على الحدود بين الشمال والجنوب وتلاحقها القوات السودانية، مما أدى إلى عمليات قصف عبر الحدود. وما دامت الحرب مستمرة في دارفور فإن خاصرة الشمال ستبقى دائما مكشوفة هناك، إضافة إلى احتمال أن يفتح استفتاء الجنوب شهية حركات أخرى في غرب السودان أو شرقه للمطالبة بتقرير المصير.

من جانبهم، يتهم الجنوبيون حكومة البشير بأنها تسلح القبائل الشمالية في مناطق التماس مع الجنوب، وتحشد قبائل المسيرية التي تتنازع على إقليم أبيي وتتمسك بحق المشاركة في الاستفتاء على أساس أنها ظلت دائما تعيش بين الشمال والجنوب وتتنقل بينهما للرعي. وتوجه جوبا منذ فترة اتهامات إلى الخرطوم بأنها تدعم وتسلح حركات منشقة على الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب.

هناك من يرى أن فك العقدة بين الشمال والجنوب يكمن في أبيي على أساس أنها القنبلة الموقوتة التي قد تفجر الأوضاع، وأن حل المشكلة الآن سيرطب الأجواء ويؤدي إلى حل القضايا الأخرى. أما بقاؤها عالقة فقد يعرقل الاستفتاء في اللحظات الأخيرة، وحتى إذا لم يعرقله، فقد يعرض السلام بين الطرفين إلى الخطر. المؤكد أن الاستفتاء في أبيي لن يجري في موعده بالتزامن مع الاستفتاء في الجنوب، فالوقت المحدد لتسجيل المقترعين قد مضى، كما أن الخلاف حول من يحق له التسجيل والتصويت لم يحسم. والحل الوحيد الممكن هو في اتفاق بين الرئاسة في الشمال والجنوب، أو في نجاح جهود الوساطة التي يقودها ثابو مبيكي، رئيس جنوب أفريقيا السابق، وتدعمها وتشارك فيها أطراف غربية من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج. وهناك عدة مقترحات معروضة أسوأها هو اقتراح التأجير أو التقسيم المؤقت للمنطقة، لمدة سبع سنوات، تمول خلالها دول غربية برنامجا لتنمية مناطق المسيرية في الشمال بحيث لا يضطرون للنزول جنوبا، وبعد فترة «الإيجار» تعود هذه المناطق للجنوب. مثل هذا الحل سيكون مجرد مسكن يخفي الألم ولا يزيل أسبابه، وبالتالي ستبقى أبيي ورقة ضغط وتجاذب قابلة للاشتعال.

ما يحتاجه السودان هو حل المشكلات قبل الاستفتاء وليس بعده، ودور الأطراف الدولية هو في العمل والضغط لتحقيق هذا الأمر، لا في تأجيل المشكلات وترحيلها إلى الفترة الانتقالية. فتجدد الحرب بين الشمال والجنوب، لن يعني فقط خسارة 100 مليار دولار، كما أشار تقرير أعده مختصون مؤخرا، بل إن التداعيات قد تمتد من القاهرة إلى كيب تاون ومن جيبوتي إلى دكار، على حد قول مبعوث أوباما للسودان، سكوت غريشن في حديثه لـ«الشرق الأوسط» الأسبوع الماضي، ولا أحسب أن الرجل بالغ كثيرا.