هاي هاي لندن

TT

لم أكن أعتقد أنه يمكن أن أبتعد عن لندن كل هذه المدة. عامان، وربما أكثر، من دون أن نفيء إلى ظلال «الهايد بارك»، أو أن نمتحن حاسة الدهشة في «هارودز». هذا اختلال موصوف في حقبة العقود الثلاثة الماضية، يوم دفعت بنا حرب لبنان على خريطة التشرد عبر البحار، بحثا عن مكان، يبعد بما يكفي، ويقرب بما يفوض.

كان ذلك زمنا كاسفا لمواليد لبنان وشرق اللعنة. ولكن هل تغير الكثير على حملة الخواطر التي تصاحبها الهواجس، من فجر اليوم إلى غسقه، ومن فجر العام إلى زواله، ومن فجر العمر على حتمية الأعمار؟ لا أعتقد. تتغير موجات الهاربين على لندن، وتأتي جميعها من الشرق: شرق بلاد العرب وشرق آسيا وشرق أفريقيا وشرق عدن!

تغيب القوافل هنا في عواملها، كل قافلة بربعها، لكنها تلتقي في قانون الهايد بارك: الحدائق للأطفال لا لتجار البحص. البط لكي ترمي له الخبز، لا لكي ترميه بالرصاص «الماغنوم». الزهر لأن يبهج لا للرعي. والضوء الأحمر إشارة الوقوف، وليس للسكر.

وصلنا إلى لندن فإذا هي مغطاة ثلوجا، لا ضبابا. ما لم تصلها في الربيع، فلا حاجة للإصغاء إلى نشرة الطقس في البارحة. و«الصيف الهندي» انتهى مبكرا هذا العام، فلا مفاجآت. ومثل كل أوروبا تتغير لندن بعاصفة ثلجية صغيرة، بعكس ما اعتادته واستعدت له كندا وأميركا. فمن مونتريال، لا تعدو مشاهد الثلوج هنا أكثر من نفناف يرشه ديزني لتصوير بيئة ثلجية. وهو أقرب الترجمات إلى «سنو وايت»، كاسم علم. وكان شائعا عندنا في القرى، حيث كانت كل مولودة باذنجانية البشرة، تسمى «ثلجية»، للتيمم، وكسر حدة الواقعة. هذا هو العالم الافتراضي الذي ابتكرته المخيلات، قبل الوصول إلى عصر «الفوتو شوب»، حيث يسهل تعديل صورتي أعلاه إلى جورج كلوني.

ترك عرب كثيرون لندن وجاءها عرب آخرون. عادت أفواج إلى لبنان وجاءت أمواج من العراق. وتزايدت أعداد المهاجرين التقليديين، الذين هم، إلى جانب اللبنانيين، المصريون والمغاربة. ووفقا للبنك الدولي أرسل المغتربون اللبنانيون إلى ديارهم الأم العام الماضي 8 مليارات دولار. والمغترب هو العملة النادرة الحقيقية وصندوق الاحتياط. ولولاه لكانت مجاعات كثيرة ضربت لبنان وهدته. فالمهاجر هو الذي يرد الأذى الذي يلحقه المقيم بالمقيم. بلد معلق كل ساعة بذنب تصريح أو فتيل مفجر. وشعب يعمل لغده وكأنه يعيش أبدا ويسهر ليومه وكأنه يموت غدا. وعنده ضمانة تاريخية اسمها أموال الاغتراب.