ثورة العولمة المضادة

TT

يا إلهي، لقد انقلب السحر على الساحر، وثبت بما ليس فيه مجال للشك أن القوى التي أطلقت «العولمة» لها منطقها الخاص، رغم محاولة وضعها في نسق فيه خير الإنسانية من حيث الاقتراب الجغرافي بثورة الاتصال والمواصلات، والغنى الاقتصادي من خلال حركة السلع والبضائع والعمالة ورأس المال، والتفاهم الثقافي من خلال الاتصال والتواصل، وشيوع السلام والأمن بواسطة القوى المحركة للحجم الأكبر من الحركة عبر الكون والأكوان، وانتشار الديمقراطية التي لا يحارب فيها بلد ديمقراطي بلدا آخر، أو هكذا قيل. النموذج على هذه الشاكلة كان براقا ومثاليا للغاية، ولكن التطور الإنساني لا يترك الأمور على حالها بحيث يظهر «النقيض» فورا، وقد كان، فالعولمة الاقتصادية ظهرت لها الأزمة المالية الاقتصادية العالمية، والعولمة الأمنية ظهرت لها أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وما تلاها من حروب، والعولمة الثقافية تحداها صراع الحضارات. وخلال هذا العام فإن عولمة المعلومات الكثيرة تحداها موقع «ويكيليكس» عندما انفتحت أحشاء الدول على مصراعيها، وانكسرت أهم مقدسات العلاقات الدولية في الحركة السرية للاتصالات بين الدول.

وفي الحقيقة فقد أصبح موقع «ويكيليكس» حديث وسائل الإعلام العالمية، بعد تسريب الوثائق السرية لوزارة الخارجية الأميركية في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2010، التي يصل عددها إلى نحو 251 ألفا و278 وثيقة، منها 15 ألفا و652 وثيقة وصفت بأنها «سرية»، من بينها 4 آلاف و330 وثيقة تقع تحت فئة «يمنع تسريبها إلى غرباء»، وتتناول الوثائق الفترة من عام 1966 وحتى عام 2010، وتتضمن برقيات من 274 سفارة أميركية.

تأسس هذا الموقع عام 2006 وسمح للمستخدمين بالاطلاع عليه في يناير (كانون الثاني) 2007، وقد أسسه الصحافي الأسترالي جوليان أسانج. وينقسم اسم الموقع إلى كلمتين: الأولى هي «ويكي» (wiki) وتعني «الباص» الذي ينتقل من منطقة إلى أخرى مثل «المكوك»، والثانية هي «ليكس» (leaks) وتعني التسريبات، وهي إشارة إلى قول مؤسسه إن الموقع يهتم بنشر الأسرار التي تتورط فيها المؤسسات والحكومات الفاسدة.

ولإدراكه التداعيات المتعددة التي يمكن أن تتمخض عن نشر التسريبات المختلفة، حرص الموقع على تكليف مجموعة كبيرة من المحامين بالدفاع عنه، كما أنه يوفر شبكة حماية للمصادر التي يحصل منها على التسريبات. وترجح بعض وسائل الإعلام أن يكون مصدر التسريب هو نظام اتصال بين وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين يسمى «سيبرنت» (سيكرت إنترنت بروتوكول راوتر نتوورك)، وهو نظام يطلع عليه نحو 2.5 مليون موظف أميركي. ويعتقد في الولايات المتحدة أن الجندي برادلي مانينغ هو من قام بهذا التسريب، وهو معروف بمثاليته ودفاعه عن مثليي الجنس في الجيش الأميركي، وكانت السلطات قد اعتقلته في مايو (أيار) 2010 بعد نشر الموقع شريط فيديو يصور قيام مروحية أميركية بقتل مدنيين عراقيين.

وقد أصدرت شرطة «الإنتربول»، في 30 نوفمبر 2010 مذكرة توقيف دولية بحق جوليان أسانج. لكن هذه المذكرة لا تتصل بالتسريبات التي ينشرها الموقع، وإنما ترتبط بطلب محكمة ستوكهولم استجوابه في إطار تحقيق في تهمة الاغتصاب والاعتداء الجنسي على امرأتين في السويد في أغسطس (آب) 2010. وبفضل التسريبات التي ينشرها الموقع، رشحت مجلة «تايم» الأميركية أسانج للحصول على لقب «رجل عام 2010». كما صنفت صحيفة «ديلي نيوز» الأميركية الموقع في مايو 2010 بأنه «أحد المواقع التي يمكن أن تغير الأخبار الرئيسية في العالم». ورغم الضغوط الكثيرة لم يصغ ِالموقع كثيرا إلى الدعوات الأميركية بعدم نشر الوثائق الجديدة، فقام بنشرها. ولذلك بدأت الولايات المتحدة في اتخاذ عدد من الخطوات بهدف احتواء التداعيات الناجمة عن نشر الوثائق. فمن جهة قامت بإجراء اتصالات مع بعض الدول الحليفة لها مثل تركيا وإسرائيل وبريطانيا وأستراليا، لإبلاغها بضرورة احتواء ما يمكن أن تتضمنه هذه التسريبات. ومن جهة ثانية بدأت حملة علاقات عامة لتحسين صورتها على الصعيد الدولي، ومن جهة ثالثة اتجهت إلى دراسة الإجراءات القضائية والتعامل مع الثغرات الدستورية المحتملة لمحاكمة جوليان أسانج بتهمة التجسس، وهي مهمة ليست سهلة نظرا لأن ذلك يتطلب إثبات أن نشر الوثائق يقيد الحريات أولا ويهدد الأمن القومي الأميركي ثانيا.

الجدير بالملاحظة في هذا السياق أنه قد سبق للموقع أن نشر في يوليو (تموز) هذا العام 77 ألف وثيقة عن الحرب الأميركية في أفغانستان، أشارت إلى انتهاكات ارتكبتها القوات الأميركية أسفرت عن سقوط مدنيين أفغان. كما قام الموقع، في أكتوبر (تشرين الأول) 2010، بنشر 391 ألفا و831 وثيقة تابعة للجيش الأميركي عن الحرب في العراق، أوضحت أن الجيش الأميركي لم يهتم بالتحقيق في انتهاكات ارتكبت بحق مدنيين عراقيين في الفترة بين عامي 2003 و2009، مشيرة إلى وجود 15 ألف مدني عراقي قتلوا ولم يتم إحصاؤهم، وإلى إنشاء ما يسمى بـ«وحدات الموت» في عهد رئيس الوزراء نوري المالكي مارست عمليات تعذيب وقتل للسنّة، وإلى قيام إيران بتهريب أسلحة إلى الميليشيات الشيعية في العراق. لكن هذه الوثائق في مجملها لم تكن أول ما كشفه الموقع، فمنذ تأسيسه في عام 2007 نجح الموقع في الكشف عن بعض الأسرار التي اعتبرت «اختراقات» في هذا الصدد، فقد نشر الموقع بيانات أعضاء الحزب القومي البريطاني المتشدد المعروف اختصارا بـ«BNP»، متضمنة الأسماء والعناوين والوظائف، وقد شملت قائمة الأسماء ضباط شرطة وقوات مسلحة وأطباء ومحامين. كما نجح الموقع في نشر وثيقة توضح القيود المفروضة على سجناء معتقل غوانتانامو.

وبالعودة إلى مقدمة هذا المقال فإن القضية ليست تسريب الأسرار الخاصة بالدول، ولكنها ظهور «دياليكتيكي» لأهم مقومات العولمة، وهي في النهاية سوف تقلب مفاهيم الأمن القومي رأسا على عقب. ولأول مرة في التاريخ سوف يكون على دول العالم أن تلعب «على المكشوف»، وهي ألعاب لا يدري أحد ما إذا كانت ستقود إلى مزيد من الحروب أو قدر أكبر من السلام. وربما كان الأكثر عمقا في الموضوع أن كل ما يتعلق بالإنسان من أسرار خاصة بحركته وحساباته البنكية وعلاقاته الشخصية من الممكن بنفس الطريقة أن يكون عرضة للاختراق والفضح والابتزاز. وهي معادلة كثيرا ما لا تذكر عند مناقشة قضية «ويكيليكس» وقصرها على التناقض ما بين الأمن القومي والحريات الشخصية وفي المقدمة منها حق التعبير. فوضع المسألة عند هذا الحد يخفي أمورا أخرى تتعلق «بالخصوصية» وحق الإنسان في أن يكون له مجاله الخاص الذي لا يخترقه أحد إلا بإذن السلطات العامة ووفقا لقانون بعينه، أما أن يكون جزءا من المجال العام فإن ذلك يمثل خطورة هائلة.