أبو مازن.. أسوأ الخيارات هو الاستقالة وحل السلطة الوطنية!!

TT

بعد ساعات فقط من إدلائه بتصريحه الذي هدد فيه، موجها كلامه لواشنطن، بأنه سيلجأ إلى حل السلطة الوطنية والاستقالة من منصبه كرئيس لهذه السلطة، تلقى محمود عباس (أبو مازن) تأكيدا من الخارجية الأميركية بأن مبعوثا سيصله، خلال وجوده في أنقرة أو بعد انتقاله إلى أثينا، في إطار جولته الأخيرة التي شملت تركيا واليونان، يحمل آخر موقف أميركي إزاء المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية المباشرة المتوقفة بسبب تعنت إسرائيل وإصرار بنيامين نتنياهو على عدم تجديد وقف الاستيطان، الذي يرفض الفلسطينيون الذهاب إلى هذه المفاوضات من دونه.

كان محمود عباس (أبو مازن) بعمان في طريقه إلى أنقرة في الجولة الأخيرة، التي أخذته إلى اليونان عندما وصله التأكيد الأميركي على أن مبعوثا سيلتحق به، في العاصمة التركية أو في العاصمة اليونانية، وكان قد أوضح، لإزالة اللبس الذي أحاط بمسألة حل السلطة الوطنية والاستقالة من منصبه إذا بقيت عملية السلام لم تراوح مكانها، وإذا بقي الأميركيون يتعاملون مع التعنت الإسرائيلي بهذه الطريقة المائعة، أن هناك خيارات ثلاثة قبل هذا الخيار الذي ينطبق عليه المثل القائل: «علي وعلى أعدائي».

الخيار الأول هو الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لانتزاع قرار اعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967. وحقيقة، هذا الخيار غير مضمون، بسبب احتمال أن يحبطه الأميركيون بحق النقض (الفيتو)، الذي إن لجأت إليه أميركا فإنه سيؤثر على استحقاق الدولة المستقلة بطريقة محبطة ومدمرة. أما الخيار الثاني فهو الذهاب إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة لترسيم حدود دولة الفلسطينيين وحدود دولة الإسرائيليين. وأما الخيار الثالث والأخير فهو إعلان هذه الدولة المستقلة من طرف واحد، وليحصل ما يحصل.

وهنا فإن ما تجدر الإشارة إليه هو أنه كانت قد ترددت معلومات لم يجر تأكيدها بصورة رسمية بأن الأميركيين لم يغسلوا أيديهم من عملية السلام كما قيل وأشيع، وأنهم لم يستسلموا للإصرار الإسرائيلي على عدم تجديد قرار وقف الاستيطان، بل إن الخارجية الأميركية تجهد في رسم خريطتين، الأولى لدولة إسرائيل القائمة، والثانية للدولة الفلسطينية المنشودة. وأنهم خلال فترة قريبة سيبادرون إلى إبلاغ الفلسطينيين والإسرائيليين، بما هم عازمون عليه، مع تصور للتنفيذ سيتم تطبيقه تحت الضغط الشديد إن هو ووجه بتعنت ورفض من أحد الطرفين.

ولذلك فإن هناك من استبشر خيرا بأن هذا الموفد الأميركي الذي سيلتحق بالرئيس الفلسطيني، في تركيا أو في اليونان، سيحمل اقتراح الخريطتين آنفتي الذكر، أي الخريطة الفلسطينية والخريطة الإسرائيلية، لكن محمود عباس (أبو مازن) اعتبر أن في هذا التقدير مبالغة تصل إلى حدود الشطح والخيال، وأن الوقائع بالإضافة إلى كل ما يطلق كـ«بالونات» اختبارية لمعرفة ردود أفعال الفلسطينيين والإسرائيليين تؤكد أن واشنطن غدت شبه مستسلمة للإرادة الإسرائيلية، وأنه يجب عدم توقع أي شيء على هذا الصعيد من الرئيس باراك أوباما، لأنه بدوره رفع يديه استسلاما أمام مواقف حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة والمتعنتة.

وهكذا، فإنه لم يبق أمام محمود عباس (أبو مازن)، كما يقول معظم المتابعين عن قرب لتطورات عملية السلام على الجانب الفلسطيني، إلا أن يبدأ بتمحيص خياراته الثلاثة المشار إليها في ضوء خياره الأخير الذي هو خيار حل السلطة الوطنية واستقالته من موقعه كرئيس لهذه السلطة، كي يتخلص من هذه الوضعية المربكة التي بسبب ميوعة الأميركيين وعدم قدرتهم على وضع حد لتلاعب اليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة هذه الزمرة التي عنوانها بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان، بمصير هذه المنطقة وبمصالح الولايات المتحدة والغرب كله في الشرق الأوسط، الذي هو في ظل كل هذا الوجود العسكري الأميركي والغربي في أفغانستان وفي العراق وفي بعض دول الخليج العربي يشكل نقطة استراتيجية في غاية الأهمية والخطورة.

وبالطبع فإن هناك من بين العرب والفلسطينيين من أفرحهم ما بات يهدد عملية السلام من فشل وانهيار وهؤلاء، كما نقرأ ونسمع، رفعوا درجات ضغطهم على القيادة الفلسطينية، كي تذهب إلى أسوأ الخيارات، وهو الانسحاب من العملية السلمية وحل السلطة الوطنية وترك الشعب الفلسطيني بعد كل هذه التضحيات الجسام، من دون أي أمل، وممزقا ومشتتا، والعودة به إلى ذلك الواقع المأساوي قبل انطلاقة ثورته المعاصرة في عام 1965.

ولعل ما بات معروفا وليس في حاجة إلى المزيد من الاستنباطات والبراهين هو أن إيران وإسرائيل في ظل هذه الحكومة اليمينية والمتطرفة تلتقيان، على الرغم من كل خلافاتهما المعلنة، عند نقطة تدمير العملية السلمية. فالإيرانيون، الذين لا يهمهم من القضية الفلسطينية سوى لاستخدامها كورقة لمزيد من التوغل في المنطقة العربية واحتلالها سياسيا إن لم يكن في الإمكان احتلالها جغرافيا، واصلوا، بالاعتماد على حلفائهم العرب والفلسطينيين، التخلص من هذه العملية (السلمية)، بينما ثبت بما لا يدعو للشك أن هذه الحكومة الإسرائيلية التي على رأسها بنيامين نتنياهو لا تريد أي سلام جدي، وأنها ستبقى تتلاعب بعامل الوقت إلى أن يصبح الحل الممكن مجرد إعطاء حكم ذاتي مدني منقوص لأقلية قومية ودينية فلسطينية، على ما تعتبره أرض إسرائيل التاريخية (الموعودة)!!

ولذلك فإن العرب الذين يهمهم الشعب الفلسطيني ولا يريدون لهذا الشعب الشقيق أن يعود إلى مرحلة الضياع وفقدان القدرة على تحديد الاتجاهات قد أبلغوا (أبو مازن) وتقدموا إليه بما هو أكثر من النصيحة بألا يتصرف بنزق، وألا يتسرع ويذهب إلى ما يمكن أن يكون أسوأ الخيارات، ففي التأني السلامة، ويجب عدم التفريط في كل هذا الدعم الشعبي والرسمي العالمي للقضية الفلسطينية، على أساس قيام الدولة المستقلة المنشودة في لحظة سوداوية تسود فيها وضعية انغلاق الأفق.

إن الرئيس الفلسطيني المعروف بحساباته الدقيقة وبتأنيه في اتخاذ القرارات المصيرية سيخطئ حتما إن ذهب تحت ضغط اللحظة السوداوية الراهنة إلى أصعب الخيارات، الذي هو خيار الاستقالة وحل السلطة الفلسطينية، تقديرا منه بأن التأثيرات السلبية لهذه الخطوة ستكون على الإسرائيليين والأميركيين، أكثر مما هي على الفلسطينيين. فالسياسة كالطبيعة، تكره الفراغ، ويقينا أن الفراغ الذي سيحصل في حال حلت السلطة الوطنية سيتم ملؤه من قبل الذين ينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض على كل شيء ووراثة الحالة الفلسطينية من أولها إلى آخرها.. وعندها فإن الندم سيكون متأخرا ولن ينفع.

وهكذا فإن أفضل خيار للرئيس محمود عباس (أبو مازن) وللشعب الفلسطيني، في حال استمرار انسداد الأفق أمام عملية السلام، هو خيار الاستمرار في خطة رئيس وزرائه سلام فياض، القائمة على أساس خلق دولة الأمر الواقع بمواصلة تحويل الضفة الغربية إلى كيان مستقر وآمن يعيش أوضاعا اقتصادية كفيلة بتثبيت الشعب الفلسطيني فوق أرضه، أما مسألة حل السلطة والاستقالة من رئاسة هذه السلطة فهو انتحار سياسي ستكون عواقبه مدمرة ووخيمة.