جزء من المهنة

TT

بعد حرب 1973 بقليل قام هنري كيسنجر بزيارة إلى كندا، وفي نهايتها عقد مؤتمرا صحافيا مشتركا مع رئيس وزرائها، بيار اليوت ترودو. وبعد نهاية المؤتمر ظن الرجلان أن مكبرات الصوت قد أغلقت، فسأل ترودو ضيفه عن رأيه في جاكلين كيندي، فأجاب كيسنجر: «إنها مثيرة جدا». ذهب كل الكلام الذي قالاه عن العلاقات الكندية الأميركية وعن أزمة الشرق الأوسط وعن فيتنام وكمبوديا سدى. التقطت الصحافة الهمس السري لا الكلام الرسمي، وملأت به عناوينها وتعليقاتها.

كان تاليران أشهر دبلوماسيي فرنسا. وعندما ذهب إلى فيينا راح يقيم الحفلات الباذخة، ويترك لزوجته الصبية أن تتلقف الأسرار من الضيوف. ثمة جزء من العمل الدبلوماسي يشبه المجلات الفنية في هوليوود. والمهمة الأولى للدبلوماسي ليست في تقييم ما يعرف، بل في رفع ما يعرف. أما المهمة الثانية فهي أن يتظاهر أمام الذين يعرفون أنه يعرف بأنه لا يعرف شيئا.

ربع مليون وثيقة من «ويكيليكس» فضحت، كما كتب عبد الرحمن الراشد، طبيعة بعض العمل الدبلوماسي. كل أخبار الشرق الأوسط كان يعرفها الدبلوماسيون الأجانب من الجلسات الاجتماعية في فندق «سان جورج» في بيروت. وقد أدرك ذلك المراسلون والجواسيس على السواء. ولم يكن يمر يوم من دون أن يمر كيم فيلبي، أشهر جواسيس القرن الماضي، على الفندق، موقع «ويكيليكس» في الخمسينات والستينات. وكان كل واحد يتجسس على خصمه، كما كانوا يتبادلون المعلومات. وأما الدبلوماسيون المكلفون من دولهم بجمع المعلومات، فكان سرهم معروفا عند البوابين والعمال، بل كان بعض العمال والموظفين يتجسسون على جميع الآخرين، ويوزعون المعلومات على كل من يهمه الأمر، خصوصا على الأمن العام اللبناني.

أعتقد أن أكثر ما يفكر فيه الجميع اليوم هو ماذا ستقول لنا «الوثائق» بعد ثلاثين عاما عن موقع «ويكيليكس» وصاحبه، وأي جناح في الخارجية الأميركية - أو سواها - سرب «الوثائق» إليه، ومن قرر ماذا ينشر منها وماذا لا ينشر، ومن أراد أن يسخف مَن في الإدارة الأميركية. أما أن نقتنع بأن هذا الساحر السويدي قادر بمفرده - أو مع زمرته - على العثور على كل هذه المواد من أدراج الدبلوماسية الأميركية، فهذا يحتاج إلى «شخرة» غزاوية كالتي تطلق عندما يسمع الغزاوي أمرا لا يحتمل التصديق.