الموناليزا وبيضة العراقي

TT

في حديثي عن البرد والدفء أشرت إلى الغاليري الوطني الذي يعطي في لندن أحسن ملجأ دافئ مجاني لمن يعاني من البرد وتكاليف التدفئة. الحقيقة انني اهتديت لذلك من خبرة السنين ومعرفتي بمتحف اللوفر في باريس. فعندما زرت العاصمة الفرنسية في موسم الشتاء ونزلت ضيفا على صديقي النحات العراقي محمد الحسني في الشاتليه، عانيت من قلة التدفئة في شقته. وعملا بالقول الشعبي: «يا مستضيف كون خفيف»، لم أشأ أن أثقل عليه في ساعات النهار أيضا. وكانت رياح يناير العاتية تصفر وتزأر في بوليفاردات باريس وشوارعها. لم أعرف أين أذهب. ولكنني سرعان ما وجدت في متحف اللوفر خير ملجأ. فهو ككل المتاحف العالمية المليئة بكنوز الفن التاريخية، حريص على الاحتفاظ بدرجة حرارة معتدلة وثابتة. وإليه قصدت الناس كل يوم أحد، اليوم المجاني لأمثالي من التلاميذ المفاليس.

كان بجوار بناية صديقي محمد، دكان صغير يبيع الأطعمة الجاهزة. والأطعمة الجاهزة في أوروبا عالم عجيب من الأشكال والألوان والأحجام لا يقل في تنوعه وتشعبه عن شكل نظام الحكم الحالي في العراق. كان منها لحم الأفاعي والكواسج ونقانق دم الخنزير وأفخاذ الضفادع والسلاحف وعشرات الأنواع من الجبن في ذلك البلد الذي يأكل أهله 220 نوعا من الجبنة. بالطبع ترددت في شراء أي شيء من اللحوم مخافة ألا تكون من اللحم الحلال وأنا مسلم أخاف ربي. وتحاشيت ساندويتش الجبن فقد يكون مصنوعا من حليب الخنازير. لم يبق لي غير البيض. فالخنازير لا تبيض.

دأبت على شراء البيض المسلوق كل يوم وأكله مع خبزة البكيت الفرنسية والطماطم الجزائرية. آخذ طعامي هذا وأدخل متحف اللوفر، أرسم وأتفرج لبضع ساعات على ما سرقوه من آثارنا ثم أختلي في زاوية منه وأتناول غدائي.

ذهبت كعادتي يوم الأحد لشراء البيض من ذلك الدكان. بيد أن المدكن تردد في إعطائي البيض وراح يسترسل في الكلام. لم أفهم منه شيئا. قلت لنفسي، أوه! هؤلاء الفرنسيون يحبون الهذرفة والهذيان مثلنا. ولكنني دفعت له الثمن وأخذت البيضة والبكيت ومضيت في طريقي. دخلت اللوفر وتوجهت نحو لوحة اللوفر الشهيرة، الموناليزا. جلست أمامها وأخرجت قلمي ودفتري ورحت أرسم وأنقل مما وضعه دافنشي على اللوحة من خطوط وأشكال، ودون شك، تلك الابتسامة الشهيرة للموناليزا. حل موعد الغداء فأخرجت طعامي وضربت البيضة في الحائط المقابل لأقشرها، ويا للهول!

لم تكن مسلوقة قط. وكان هذا ما حذرني الرجل منه ولم أفهم كلامه. تدفق بياض البيضة ومحها الأصفر على الحائط الملكي المذهب وراح يسيل نحو السجاد الأرضي الثمين وأمام لوحة الموناليزا. أسرعت فخلعت سترتي، أمسح بها البياض والصفار وأشكر الله أن أحدا من حرس اللوفر لم يكن قريبا مني ويرى ما فعلت، وإلا لكان هذا العراقي المتخلف يرزح حتى الآن في سجون فرنسا مع الإرهابيين المسلمين وسماسرة المخدرات والمومسات التايلانديات.