كومنولث الدول العثمانية

TT

يخالجني أمل واعتقاد بأن المجتمع التركي الحالي راض بصورة عامة بالحدود الراهنة للدولة التركية، التي حال وضع تقييم واقعي لها نجد أنه يمكن وصفها بـ«بقايا» الإمبراطورية العثمانية. ربما لا يزال هناك بعض المخبولين داخل المجتمع التركي، ربما مثلما هي الحال في المجتمعات كافة، يطمحون في رؤية تركيا وهي تتحول لإمبراطورية أو نيلها نفوذا يليق بإمبراطورية مرة أخرى.

في الواقع، منذ هزيمة البلقان بداية القرن الماضي والحرب العالمية الأولى وما أعقبها من انهيار الإمبراطورية العثمانية وإقامة الجمهورية التركية الحديثة ذات الطابعين العلماني والديمقراطي على أنقاض الإمبراطورية الغابرة، انشغلت الدولة التركية على مدار كثير من العقود الماضية بـ«حماية ما هو قائم». وقد شدد مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية، على أن «السلام في الداخل والخارج» ينبغي تفهمه في هذا الإطار.

وتكمن المفارقة في أن الولاء الصارم الذي أبدته حكومات تركية جمهورية متلاحقة لمبدأ «الحفاظ على ما هو قائم» كان سببا في ارتباط تركيا الشديد بالغرب، ومشاركتها النشطة في مؤسسات غربية وتحولها إلى عضو مؤسس ورائد بالكثير من المبادرات الأوروبية، على الرغم من أن «الغرب» هو الذي احتل وتسبب في انهيار الإمبراطورية العثمانية. ونظرا لأن عضوية حلف «الناتو» تعد تنازلا عن مبدأ «الاستقلال الكامل» الذي يقوم عليه إنشاء الجمهورية، فإنه يمكن التساؤل: هل كانت تركيا ستصبح عضوا في المنظمة لو أن الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين ادعى أحقية سيطرته على بعض المناطق الخاضعة لتركيا وطالب بإلغاء اتفاقية مونترو، التي استعادت أنقرة بمقتضاها سيطرتها على المضايق التركية؟ وعلى الرغم من أن قرابة قرن قد مضى منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، وعلى الرغم من أنهم قد ينكرون ذلك، فإن الدولة التركية والأتراك عامة لم ينسيا ولم يتخليا عن العقلية الإمبراطورية؛ إذا كانت شخصية قوية تصدر مراسيم إمبراطورية على غرار ما كان يفعله السلاطين العثمانيون - مثل اللورد الإقطاعي المعدم في العمل الدرامي الكوميدي «زوغورت أغا» - فيصيح ويرهب الناس، ومع ذلك يعشقه الجميع بسبب الميل الوطني لعشق القوة، فمن بمقدوره إذن القول إن الأتراك نسوا العقلية الإمبراطورية؟

ومع ذلك، أؤكد أن الطابع الثري الذي يمكن لتركيا إضفاءه على الاتحاد الأوروبي حال انضمامها لعضويته يتجاوز بوضوح تمتعها بعدد سكان يبلغ 72 مليون نسمة، وهرمها السكاني الشاب نسبيا، وقوتها الشرائية المعقولة، وأراضيها الواسعة الغنية بالموارد. إن الوضع الجيوسياسي للبلاد، الذي يجعلها أشبه بجسر بين آسيا وأوروبا، هو بالطبع ما يكسب تركيا أهمية. بالطبع تعد تركيا جسرا طبيعيا بين العالم التركي في آسيا الوسطى والغرب، لكن حقيقة أن العالم يضم حاليا 45 دولة كانت في ما مضى جزءا من الإمبراطورية العثمانية قد تمد تركيا بفرصة لا نظير لها. وبالطبع لا يمكن القول إن توقعنا بأن تصوغ الشعوب التي نرتبط معها بقرون من الماضي المشترك، بعض الأهداف المستقبلية المشتركة هو مجرد مبالغة أو انتهازية خطيرة.

على مدار فترة طويلة، تصل إلى عهد حكومة تورغوت أوزال الأولى عام 1983، تطلعت تركيا نحو تنمية «سياسة خارجية ذات محور إقليمي». ومع ذلك، لم يظهر في تاريخ تركيا الجمهورية قط حكومة أو وزير خارجية أثارا الماضي الإمبراطوري العثماني بقوة وشرعا في بناء شبكة من العلاقات مع تلك الدول الـ45 على نحو يشبه للغاية كومنولث الإمبراطورية البريطانية، مثلما فعلت حكومة حزب العدالة والتنمية ووزير خارجيتها أحمد داود أوغلو. وعندما كتبت وكتب آخرون أن وزير الخارجية يتبع أهدافا على صعيد السياسة الخارجية يمكن وصفها بـ«العثمانية الجديدة»، رفض أوغلو ذلك بشدة.

الآن، اعترف أوغلوا أخيرا خلال مقابلة أجراها معه جاكسون ديهيل، الكاتب بصحيفة «واشنطن بوست»، بأنه إذا كان لدى بريطانيا كومنولث، فما المانع من أن تعيد تركيا بناء قيادتها داخل الأراضي العثمانية السابقة، مثل البلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطى؟

وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو غريبا، فإن بناء «كومنولث من الدول العثمانية» ربما يشكل أصلا مهما لمصممي «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، حال التمكن من السيطرة على داود أوغلو ورئيسه على نحو يسمح بأن يتقبلا أن فكرة إنشاء هذا الكومنولث ينبغي أن تخدم الاحتياجات الأمنية لإسرائيل.

* بالاتفاق مع صحيفة

«حرييت ديلي نيوز» التركية