أنا مندهش!

TT

الأساس في الديمقراطية هو الفرد الحر الذي لا يتأثر بالضغوط، سواء جاءت هذه الضغوط من القائمين على الحكم أو من المجتمع بسلطاته المختلفة ابتداء من الأسرة، والأب تحديدا، مرورا بسلطة الذين يدعون التحكم في الدين ممن يكفرون ويخرجون من الملة، فإذا كان الفرد غير قادر على إبداء رأيه خوفا من أي سلطة من هذه السلطات، فمستقبل الديمقراطية في هذا البلد أو ذلك موضع شك كبير.

وما يزيد الأمور سوءا هو عدم التعامل مع العالم العربي كما هو، بل كما نتمناه، فالحالمون بالديمقراطية في بلد كمصر مثلا، يتناسون أن من يسكن مصر هم مصريون وليسوا ألمانا أو بريطانيين. فالمجتمع المصري، على الرغم من حداثته الظاهرة على السطح، يشبه إلى حد كبير المجتمع اللبناني الذي هو أيضا أكثر بريقا «من برة» لكن جوهره أو مخبره هو مجتمع عائلي وعشائري وطائفي، دروز وموارنة وشيعة وسنة وأرمن.. إلى آخر القائمة المعروفة، مجتمع متقدم اجتماعيا ولكنه متخلف سياسيا، فأحزابه عائلات وعشائر وطوائف، هذا هو حال لبنان، وعلى الرغم من كل ما يقال عن التاريخ السياسي المصري الحديث، تظل مصر بلدا متخلفا سياسيا، على الرغم من أنها «أفضل» ما وصلنا إليه في هذه المنطقة من العالم. فنسبة الأمية في مصر ما زالت أكثر من 40 %، وما زالت الآيديولوجية السائدة هي العائلية الأخلاقية، بمعنى أن تسرق لمبة الكهرباء التي في الشارع لتنير بيتك، الخاص أهم بكثير من العام.

ومع ذلك عندما يتحدث بعض الغرب عن الإخوان المسلمين في مصر مثلا، أو حتى بعض مناصري الإسلام السياسي، فإنهم يتحدثون عن الإخوان وانخراطهم في العملية السياسية وكأنهم يتحدثون عن حزب المسيحيين الديمقراطيين في ألمانيا. يتناسون أن حزب المسيحيين الديمقراطيين في ألمانيا هو نتيجة طبيعية للمجتمع الألماني الحديث، هو نبت طبيعي لعالم حديث وصناعي تفككت فيه الروابط البدائية كلها كالأسرة والعشيرة والقبيلة، ولم يبق لدى الفرد سوى آيديولوجية الصالح العام والأفكار المشتركة للوصول إلى هذا الصالح العام. أما إخوان مصر فهم نتاج مجتمعهم بكل ما فيه من تخلف وأمية وفقر، وهم لا يؤمنون بفكرة تداول السلطة أو بالتشريعات البرلمانية البشرية، إذن لا يمكن أن ينخرط هؤلاء في عملية ديمقراطية قبل أن تحدث حالة تحديث كاملة للمجتمع.. ومن هنا يجب ألا نخلط بين البرتقال والتفاح، كما يقول المثل الغربي، وهو إما خلط متعمد يخلو من الأمانة العلمية وإما خلط عن جهل، وكلاهما سيئ.

كنت في الأسبوع الفائت على واحدة من الفضائيات في حوار حول الديمقراطية في العالم العربي عموما والانتخابات المصرية خصوصا، وكان يشاركني الحوار ضيفان. لم يكن رد أحد الضيفين على الأفكار التي طرحت سوى الاندهاش. الاندهاش لا يمثل ردا فكريا في حوار يجري في أي مكان في العالم، ولكن في عالم القاهرة، واللهجة المستحدثة السريعة التي لا تفهم منها شيئا موزونا، يكفي الاندهاش كموقف فكري. حكاية الاندهاش البديل عن التفكير تبدو وكأنها ظاهرة معدية بدأت تتسرب إلى الفضائيات العربية المختلفة، فاستعضنا عن التفكير بمط الشفاه والتعبير عن الاندهاش، خصوصا إذا كان المندهش ذا موقع حكومي أو في وظيفة «ميري»، يستعيض وقتها صاحبنا عن الفكر بالبذلة أو المنصب الذي هو فيه. ما لم ينتقل العالم العربي من عالم المكافأة إلى عالم الكفاءة، ومن عالم العشيرة في السياسة والشللية التي تشبه العشيرة في الثقافة، فإن الحديث عن ثقافة وعن ديمقراطية في العالم العربي يصبح ضربا من الخيال.. وإذا حدث تطور ديمقراطي في عالمنا العربي خلال الـ50 سنة المقبلة، سوف أعلن لحظتها، لو كنت على قيد الحياة: «أنا مندهش» وأصفق مع المصفقين، أقصد المثقفين.